عبد الحكيم العياط : الغموض التنظيمي للمجموعات الصحية الترابية: سؤال الحكامة وحقوق مهنيي الصحة

عبد الحكيم العياط : الغموض التنظيمي للمجموعات الصحية الترابية: سؤال الحكامة وحقوق مهنيي الصحة عبد الحكيم العياط

منذ الإعلان عن إحداث المجموعات الصحية الترابية، قدم هذا الورش باعتباره أحد أعمدة الإصلاح البنيوي العميق للمنظومة الصحية الوطنية، ورافعة أساسية لتنزيل الجهوية المتقدمة في بعدها الاجتماعي، ولتحقيق النجاعة، والحكامة، والقرب في تدبير الخدمات الصحية. غير أن الانتقال من النص التشريعي إلى الممارسة الفعلية كشف، في التجربة النموذجية لجهة طنجة–تطوان–الحسيمة، عن اختلالات بنيوية عميقة، في مقدمتها استمرار غياب النصوص التنظيمية من مراسيم وقرارات تطبيقية، وما يترتب عن ذلك من غموض قانوني وإداري يمس بشكل مباشر الوضعية المهنية والإدارية لمهنيي الصحة.

إن أي إصلاح تشريعي، مهما بلغت وجاهة فلسفته، يظل إصلاح معطوب إذا لم يدعّم بمنظومة تنظيمية واضحة، دقيقة، ومتكاملة. فالقانون، في الأنظمة القانونية المقارنة، لا يعمل بذاته، بل من خلال نصوص تنظيمية تضبط شروط تنزيله، وتحدد بدقة الصلاحيات، والمسؤوليات، والحقوق، والواجبات. وفي حالة المجموعات الصحية الترابية، يطرح غياب هذه النصوص التنظيمية إشكالية مزدوجة: من جهة، تعطيل فعلي لمقتضيات الإصلاح، ومن جهة ثانية، خلق وضعية قانونية رمادية لمهنيي الصحة، لا هم خاضعون بالكامل لمنطق الوظيفة العمومية التقليدية، ولا هم مستفيدون من إطار قانوني بديل واضح ومستقر.

وتتجلى أولى انعكاسات هذا الفراغ التنظيمي في مسألة الحركة الانتقالية، التي تشكل إحدى الركائز الأساسية للاستقرار الاجتماعي والمهني للأطر الصحية. فغياب مراسيم معلنة لتنظيم الانتقالات داخل المجموعات الصحية الترابية أو بينها وبين باقي مكونات المنظومة الصحية، جعل هذه الحركة رهينة لاجتهادات إدارية غير مؤطرة وأحيانا خاضعة لمنطق السلطة التقديرية الواسعة. وهو ما يضرب في العمق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين الموظفين ويحول الانتقال من حق إداري مشروع إلى امتياز غير مضمون.

ولا يقل الغموض حدة فيما يتعلق بالوضعية الإدارية لمهنيي الصحة، سواء من حيث المسار المهني، أو الترقية، أو التقييم، أو التأديب. فغياب قرارات تنظيمية تحدد بدقة النظام الأساسي الخاص بالعاملين داخل المجموعات الصحية الترابية يفتح الباب أمام تأويلات متعددة، بل ومتضاربة، ويضع الأطر الصحية في وضعية عدم يقين قانوني دائم. وهو وضع يتناقض مع أبسط مبادئ الأمن القانوني، الذي يشكل حجر الزاوية في أي إصلاح إداري جاد.

وفي هذا السياق، يبرز إشكال أكثر عمقا يرتبط بتمركز السلط داخل بنية المجموعات الصحية الترابية في يد المدير العام. فبدل أن تشكل هذه المجموعات إطار لتقاسم الاختصاصات وتفعيل الحكامة التشاركية، أفرز غياب النصوص التنظيمية وضع مقلق يتمثل في تركيز جل السلطات الإدارية والتدبيرية في شخص واحد، دون وجود ضوابط قانونية دقيقة تحد من هذا النفوذ أو تؤطره. وهو ما يؤدي عمليا إلى اختلال في توازن السلط داخل المؤسسة، ويضعف آليات المراقبة والمساءلة، سواء الداخلية أو الخارجية.

إن هذا التمركز السلطوي لا يشكل فقط عائق إداري بل يطرح تساؤلات سياسية ومؤسساتية عميقة حول طبيعة النموذج التدبيري المعتمد ومدى انسجامه مع فلسفة الجهوية المتقدمة، التي يفترض أن تقوم على اللامركزية وتقريب القرار من الفاعلين وتوسيع دائرة المشاركة في اتخاذه. فكيف يمكن الحديث عن تفويض حقيقي للاختصاصات في ظل إعادة إنتاج منطق التمركز، ولكن هذه المرة داخل بنيات جهوية؟

ولا يمكن فصل هذه الاختلالات عن السياق العام لتنزيل إصلاح المنظومة الصحية، الذي اتسم في أكثر من محطة بتسريع تشريعي غير متبوع بالسرعة نفسها على المستوى التنظيمي. وهو ما يخلق فجوة خطيرة بين الخطاب الإصلاحي والواقع العملي، ويحوّل المجموعات الصحية الترابية من فضاء لإنتاج النجاعة إلى مجال لتراكم التوترات المهنية والاجتماعية.

إن التجربة النموذجية لجهة طنجة–تطوان–الحسيمة بدل أن تشكل مرجع إيجابي للتعميم، أضحت اليوم مختبرا يكشف عن أعطاب الإصلاح حين ينزَّل دون استكمال شروطه القانونية والتنظيمية. وهو ما يستدعي وقفة تقييم جريئة ومسؤولة، تنطلق من ضرورة الإسراع بإصدار النصوص التنظيمية المؤطرة، وإشراك مهنيي الصحة وممثليهم في صياغتها ضمانا لنجاعتها وقبولها الاجتماعي.

فإصلاح الصحة لا يمكن أن ينجح بمنطق الأمر الواقع، ولا بتغليب هاجس السرعة على حساب الجودة والإنصاف. بل يتطلب رؤية متكاملة تحترم مبادئ الأمن القانوني والحكامة الجيدة وتضع العنصر البشري في صلب الإصلاح لا في هامشه. ودون ذلك، ستظل المجموعات الصحية الترابية رغم وجاهة أهدافها عنوانا لإصلاح مؤجل وحقوق مهنية معلّقة وانتظارات مشروعة لم تجد بعد طريقها إلى التنزيل الفعلي.

عبد الحكيم العياط، متصرف بوزارة الصحة والحماية الاجتماعية، باحث جامعي في العلوم السياسية