تؤكد معركة «القفطان» التي درات رحاها، قبل أسابيع، داخل «اليونسيكو» أن الترامي على التراث اللامادي المغربي تحول لدى الطغمة العسكرية الحاكمة في الجزائر إلى «نهج سياسي مقصود»، إذ تستعمل مثل هذه المعارك المتلاحقة بوصفها استفزازا يستهدف «الرمزيات» و«الذاكرة» و«الهوية»، ومناوشة تتطلع إلى كسر سردية مغربية أنتجها تفاعل طويل الأمد بين جماعات بشرية ومجالات جغرافية محددة، وذلك في سياق صراع إقليمي يريده قصر المرادية أن يتأبد حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فالمسألة، حين تُقرأ في تسلسلها الزمني وفي طبيعة الملفات المختارة وفي الإصرار الرسمي الذي يرافقها، لا تبدو مجرد أخطاء تقنية أو سوء تقدير ثقافي عابر، بل هي سياسة ثقافية واستراتيجية واعية لإعادة كتابة الخريطة الرمزية للمنطقة بالتزوير والتحريف، عبر توسيع الهوية الوطنية على حساب هوية الجار، وتقديم الذات باعتبارها وارثة لتراث لم تشارك فعليا في صناعته.
وتبعا لذلك، يمكن النظر إلى ما يجري من معارك حول التراث اللامادي بوصفه علامة دالة على تحوّل عميق في طبيعة الصراعات بين الدول، وهذا ما اختارت السلطات الجزائرية أن تقوم به، حيث لم تعد المواجهة محصورة في الجغرافيا أو الاقتصاد أو الرياضة أو السياسة الصلبة، بل امتدت إلى الذاكرة والرموز والرمزيات. غير أن المثير للانتباه في هذا المسعى الجزائري هو أنه يستهدف رموزا مركزية في البناء الثقافي المغربي، وذات حمولة تاريخية قوية وحضور دولي واضح «القفطان، الزليج، الملحون، البسطيلة، الكسكس،..»، فضلا عن عناصر من المجال الطبيعي والعمراني: الأطلس، صومعة الكتبية، جبل توبقال..)، بل يذهب الأمر إلى حد الترامي على الأعلام الأفذاذ في تاريخ المغرب وشيوخ التصوف والرياضيين والعلماء والمثقفين الذين حققوا إنجازات لافتة على المستوى الدولي، مما يدل على أن «الأهداف» ليست اختيارات بريئة أو عشوائية، بل عناصر مشحونة رمزيا ودلاليا، تمثل واجهة الثقافة المغربية في المخيال العالمي.
من ذلك كله أن هذا الترامي لا يتم في فضاءات ثقافية مفتوحة أو في نقاشات أكاديمية قابلة للتصحيح، بل داخل مؤسسات دولية، مثل اليونسكو، الأمر الذي يمنحه طابعا رسميا ومؤسساتيا مفكرا فيه ويخضع لمخططات مدروسة. هنا بالضبط يتحول الترامي على التراث إلى أداة استفزاز، لأن إدخاله في ملفات دولية، دون سند علمي متين، يعني نقل الخلاف من مستوى النقاش الثقافي إلى مستوى الصراع الدبلوماسي غير المباشر. فالرسالة ليست موجهة فقط إلى المغرب، بل إلى المجتمع الدولي، ومفادها إعادة رسم حدود الذاكرة والهوية بـ «قوة الترامي على الرموز»، لا بالحقيقة التاريخية.
ومن هنا، يمكن تحديد خلفيات المعارك الرمزية التي تخوضها السلطات الجزائرية عن عمد وسبق إصرار في عشر نقاط أساسية لا يمكن تجاهلها:
أولا: تحويل الصراع السياسي إلى مجال رمزي؛ فبعد أن عجزت السياسة والديبلوماسية عن إنتاج حلول مُرْضية لحكام الجزائر، صارت السلطة الحاكمة تبحث عن ساحات بديلة لإدارة الصراع دون تحمل كلفة المواجهة المباشرة. وفي هذا السياق، انتقل التوتر بين الجزائر والمغرب من مستواه السياسي والدبلوماسي التقليدي إلى مستوى رمزي أكثر مرونة وأقل التزاما بالضوابط الصارمة للقانون الدولي، خاصة أن التراث اللامادي، بما يحمله من شحنة وجدانية وعمق هوياتي، أصبح ساحة مواجهة مثالية، لأنه يسمح بإرسال رسائل سياسية حادة دون إعلان القطيعة الرسمية، كما يُبقي النزاع يقظا في الوعي الجماعي دون الحاجة إلى قرارات صدامية صريحة.
ثانيا: السعي إلى تقويض التفوق الرمزي المغربي، خاصة أن المغرب يتمتع برصيد رمزي متراكم، نابع من عمق تاريخي متصل، ومن قدرة على تحويل هذا التاريخ إلى سردية ثقافية متماسكة ومُقنعة دوليا. هذا التفوق لا يُقاس فقط بعدد العناصر المسجلة في اليونسكو، بل بالحضور المستمر للثقافة المغربية في المخيال العالمي بوصفها ثقافة ذات جذور واضحة واستمرارية تاريخية. ومن هنا يصبح استهداف هذه الرموز محاولة لتقويض هذا التفوق، أو على الأقل التشويش عليه، عبر إدخاله في منطقة رمادية من الجدل والتنازع.
ثالثا: بناء شرعية ثقافية بديلة. ففي غياب مشروع ثقافي متماسك ينبع من الداخل، تلجأ بعض الأنظمة، مثلما تفعل إسرائيل، إلى بناء شرعية ثقافية مصطنعة عبر الاستحواذ على رموز قائمة وذات قيمة عالية. وهذا ما يفعله حكام الجزائر الذين يريدون استعمل التراث المغربي وتسخيره كوسيلة لتعويض نقص في الامتداد التاريخي الموحِّد، أو ضعف في القدرة على إنتاج رموز جامعة. إذ بدل الاستثمار في البحث والتوثيق والإبداع، يتم اختصار الطريق عبر تبني رموز جاهزة، ومحاولة إدماجها قسرا في الهوية الوطنية الجزائرية، ولو على حساب الحقيقة التاريخية.
رابعا: استثمار التراث في التعبئة الداخلية. تُستعمل هذه المعارك الرمزية أيضا كأداة لإعادة توجيه النقاش العمومي داخل الجزائر، وصرف الانتباه عن أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية بنيوية، خاصة أن الصراع حول التراث يملك قدرة عالية على التعبئة، لأنه يخاطب الشعور الوطني، ويستدعي مشاعر الفخر والندية، فيتحول «الدفاع عن التراث»، بموجب ذلك، إلى خطاب تعبوي يُعيد إنتاج الإجماع الداخلي، ويمنح السلطة فرصة لتقديم نفسها كحامية للهوية في مواجهة «الخطر الخارجي».
خامسا: استفزاز المغرب وإخراجه من «منطقة الراحة» وإرغامه على الانفعال. إذ لا يقتصر الهدف على تسجيل عناصر تراثية أو الفوز بملفات تقنية، بل يتجاوز ذلك إلى استدراج المغرب إلى ردود فعل متكررة، وإبقائه في موقع الدفاع. ومن ثمة، فكل ادعاء جديد هو بمثابة اختبار لمدى الصبر والجاهزية، ومحاولة لاستنزاف الجهد الدبلوماسي والمعرفي في الرد والتفنيد، وإبقاء التوتر قائما.
سادسا: تسييس آليات اليونسكو. تعتمد هذه المعارك على استغلال الثغرات الإجرائية داخل منظومة اليونسكو، حيث يغلب الطابع التقني والإداري على التحكيم العلمي العميق، مما يسمح بتمرير سرديات سياسية تحت غطاء حماية التراث، خصوصا حين تُقدَّم الملفات بلغة عامة، وتُفرغ من «التحقيق الإثنوغرافي الدقيق»، فتتحول المؤسسة الدولية، تبعا لذلك، إلى ساحة تنافس رمزي، تُستعمل فيها الشرعية الأممية لأغراض سياسية.
سابعا: إعادة كتابة سردية تاريخية إقليمية. إذ يسعى الترامي على التراث إلى إعادة تشكيل الماضي، وفرض قراءة جديدة للتاريخ الثقافي للمنطقة المغاربية، مما يؤدي إلى انحماء الفوارق التي تشكّل جوهر الخصوصيات المحلية.
ثامنا: تحويل مفهوم «التراث المشترك» إلى أداة هيمنة، خاصة إذا استعمل من طرف الطرف المترامي كذريعة لتذويب الخصوصيات وشرعنة الاستحواذ. وبموجب ذلك، بدل الاعتراف بالتعدد داخل الوحدة، يجري توظيف هذا المفهوم لإلغاء الفروق الدقيقة، وتحويل المشترك إلى ملكية مبهمة تسمح بالضمّ الرمزي لما هو خاص، ولما يشكل معطى رمزيا أنتجه التراكم التاريخي الخاص.
تاسعا: إدارة الصراع بمنطق الاستدامة لا الحسم: إذ لا تحدف هذه المعارك إلى تحقيق نصر نهائي، بل إلى تأبيد الصراع وإدارته بعناية والتحكم في تمفصلاته كأداة للضبط، إلى درجة يصبح معها هذا الصراع موردا سياسيا دائما، يُستدعى كلما دعت الحاجة إلى التعبئة أو تحويل الأنظار، أو إلى رمي الفشل الحكومي والقذارة السياسية على ظهر "العدو الخارجي".
عاشرا: اختبار حدود الردع الرمزي المغربي. ذلك أن كل ملف جديد هو في جوهره اختبار لمدى قدرة المغرب على حماية ذاكرته الثقافية، وحدود تسامحه مع الاستفزاز الناعم. ومن هنا، فالمعركة ليست فقط حول عناصر تراثية، بل حول من يملك حق السرد، ومن يفرض تعريف الهوية في الفضاء الدولي. غير أن التراث الحي، المتجذر في الممارسة والذاكرة، يظل أقوى من أي محاولة إعادة تشكيل قسرية، لأن ما يتجسد في حياة الناس لا يمكن مصادرته بقرار سياسي، وهذا ما ينساه الحكام الجزائريون الذين تطاولوا حتى على «الدروس الحسنية»، وعلى «موائد الرحمن»، بل حتى على «أصحاب الكهف»، وعلى «الديمقراطيات الغربية»، وعلى «استبانكو»، ابن مدينة أزمور الذي يعتبر أول من اكتشف القارة الأمريكية.
وإذا كان حكام الجزائر ينظرون إلى هذا الترامي كوسيلة لإعادة إنتاج الصراع بوسائل ناعمة بغاية توحيد الداخل عبر خلق خصم خارجي رمزي، فإن هذا الخيار، رغم فعاليته المؤقتة، يحمل في طياته مخاطر بعيدة المدى، لأنه يرسخ منطق العداء في الوعي الجمعي، ويجعل من الثقافة ساحة صراع دائم بدل أن تكون مجالا للتلاقي، وهذا ما أصبح ملحوظا حتى في الإعلام الرسمي الجزائري، أما في المواقع المأجورة أو الاستخباراتية، فضلا عن منصات التواصل الاجتماعي، فقد وصل الصراع إلى درجات من التوتر والسواد لا يمكن التحكم في انعكاساتها المستقبلية.
ويمكن القول، من زاوية تحليل سياسي، إن السلطات الجزائرية اعتمدت هذا المسار بديلا عن المواجهة السياسية المباشرة، في ظل انسداد قنوات الحوار وتراجع القدرة على التأثير في ملفات إقليمية أخرى. فحين تفشل السياسة في تحقيق مكاسب ملموسة، يُلجأ إلى الرموز، لأنها أقل كلفة، وأكثر قدرة على إثارة ردود الفعل، كما أن بإمكان هذه المعارك أن تمنح للحكام الوقت الكافي لالتقاط الأنفاس، وأيضا أن تزودهم بالحماس اللازم للظهور بمظهر الأبطال في ملفات يعرفون أكثر من غيرهم أنهم فشلوا فيها.
هذا الوضع يطرح على المغرب تحديا مضاعفا، لا يقتصر على الدفاع عن عناصر بعينها، بل يشمل إعادة التفكير في استراتيجية شاملة لحماية تراثه اللامادي. فالدفاع الظرفي، القائم على ردود الفعل، يظل محدود الأثر، بينما المطلوب هو بناء سياسة ثقافية استباقية، تقوم على البحث العلمي والتوثيق الدقيق، وإشراك الجامعات ومراكز البحث والجماعات الحاملة للتراث في صياغة الملفات الدولية.
إن الرهان الحقيقي الذي ينبغي على المغرب الانخراط فيه بحسابات مدروسة هو النجاح في الحفاظ على حيوية التراث داخل مجتمعه الأصلي. فالتراث الذي يُختزل في ملف أو عرض احتفالي يفقد روحه، بينما التراث الحي، الذي يُمارس ويُطوَّر وينتقل بين الأجيال، يفرض نفسه بديهيا، ويصعب طمسه أو مصادرته.
من هنا، فإن دعم الحرفيين، وحماية الفضاءات الثقافية، وتشجيع البحث في الذاكرة الشفوية، كلها عناصر أساسية في معركة الحفاظ على التراث، لأنها تعيد ربطه بأصحابه الحقيقيين.
أما على المستوى الدولي، فيطرح هذا النزاع أسئلة محرجة حول دور المؤسسات المعنية بحماية التراث، وحول قدرتها على تحصين نفسها من خدعة الضم والترامي تحت يافطة «التراث المشترك». ذلك أنه حين تتحول ملفات التراث إلى أوراق «تفاوض سياسي»، يفقد النظام الدولي جزءا من مصداقيته، ويصبح عرضة للتشكيك. ومن ثمة، فالمطلوب إعادة التأكيد على البعد العلمي والإنساني للتراث، وعلى ضرورة الاستناد إلى خبرات مستقلة، قادرة على التمييز بين الادعاء والسند، وبين السردية السياسية والمعطى الثقافي، مع ضرورة تفكيك خطاب «التراث المشترك» بهدوء علمي، خاصة أن «المشترك الحضاري»- المفترى عليه في الكثير من الحالات- حقيقة تاريخية ينبغي كشفها بالأدلة لا بالشعارات.
إن أول ما يفرضه هذا السياق هو القطع مع منطق الانفعال الظرفي، لأن الدفاع المتأخر يضع المغرب دائما في موقع المتلقي لا المبادر. كما أن حماية التراث لا ينبغي أن تنطلق مع الاستفزاز. وهذا التحصين يتم في كل الحالات عبر البحث والتوثيق، بل عبر توطين هذا الملف داخل الجامعة ومراكز البحث، وإنتاج دراسات أنثروبولوجية وسوسيولوجية وتاريخية محكَّمة، منشورة ومتداولة دوليا.
ومع ذلك، فإن التحصين الأكاديمي والقانوني وحده لا يكفي إذا ظل منفصلا عن حاملي التراث أنفسهم. فإشراك الجماعات الحاملة، من حرفيين وصناع تقليديين وفاعلين ثقافيين أصبح ضرورة استراتيجية. ذلك أن التراث الذي يتكلم بلسان أهله، ويُعرض بوصفه ممارسة حية متواصلة، يكتسب قوة لا توفرها أي وثيقة إدارية.
ويمكن، إضافة إلى كل ذلك، تعزيز هذا المسار بإنشاء أرشيف وطني رقمي مفتوح، متعدد اللغات، يوثّق التراث اللامادي المغربي بالصوت والصورة والنص، ويضعه في متناول الباحثين والرأي العام العالمي. كما لا ينبغي حصر المعركة في فضاء اليونسكو وحده، لأن الاعتراف لا يُصنع فقط داخل المؤسسات الأممية. بل أيضا عبر المعارض الدولية والمتاحف والجامعات والمهرجانات. كما يصنع أيضا بالتعبئة الإعلامية المستدامة، وتسخير مؤسسات التنشئة الاجتماعية، حتى يصبح التراث جزءا لا يتجزأ من الوعي اليومي. ذلك أن السردية القوية لا تصرخ ولا تشكو، وإنما تفرض تفرض نفسها بالتراكم الهادئ، وبالتحصين المعرفي، وبجعل التراث المغربي حاضرا بقوة بوصفه حقيقة ثقافية راسخة تستعصي على المصادرة مهما تعددت محاولات الاستفزاز.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من اسبوعية " الوطن الآن"