يندرج نظام صرف الدرهم ضمن مسار إصلاحي تدريجي أطلقه بنك المغرب منذ سنة 2018، ومن المرتقب أن يمتد لما لا يقل عن 15 سنة، في أفق الانتقال من نظام سعر صرف ثابت إلى نظام أكثر مرونة، وصولًا في النهاية إلى التعويم الكامل.
وقد مرت هذه العملية بعدة مراحل، ففي المرحلة الأولى تم توسيع نطاق تقلب الدرهم في حدود 0.5 في المائة، قبل أن ينتقل إلى 2.5 في المائة في المرحلة الثانية، ليصل حاليًا إلى 5 في المائة في المرحلة الثالثة، دون تجاوز هذا السقف صعودًا أو نزولًا.
هل يتجه بنك المغرب نحو تحرير كامل للدرهم؟
أكد والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، أن مؤسسة بنك المغرب لا تعتزم في الظرف الراهن المرور إلى المرحلة المقبلة من تحرير سعر صرف الدرهم، نافياً وجود أي توجه لاتخاذ خطوة متسرعة في هذا المسار، ومبرزاً في المقابل اعتماد منهج التدرج والحيطة لتفادي المخاطر المحتملة.
وأوضح الجواهري، خلال الندوة الصحافية التي أعقبت الاجتماع الأخير لمجلس بنك المغرب (16 دجنبر 2025) أن البنك يتجه نحو إطلاق مرحلة اختبارية لنظام استهداف التضخم، على أن يتم الشروع في اعتماده بشكل رسمي ابتداءً من سنة 2027.
وأشار إلى أن هذه المرحلة التجريبية ستُنجز بتنسيق مع مختلف المتدخلين، وبدعم تقني من صندوق النقد الدولي، مع الاستفادة من خبرات وتجارب دول خاضت مساراً مماثلاً في هذا المجال.
وفي السياق ذاته، شدد والي بنك المغرب على عدم وجود أي برنامج حالي للانتقال إلى المرحلة المقبلة من تحرير سعر الصرف، دون أن يستبعد إمكانية إقرار مرحلة انتقالية يظل فيها البنك المركزي متدخلاً لدعم الدرهم عند الضرورة.
وأكد أن أي توجه نحو مزيد من المرونة في سعر الصرف يظل رهيناً بتوفر شروط كاملة، بما يضمن تفادي الصدمات الخارجية التي قد تفرض اللجوء إلى الاحتياطات من العملة الصعبة للدفاع عن قيمة الدرهم.
سياسة احترازية لبنك المغرب
من جهته أوضح محمد جدري، خبير اقتصادي ومدير مرصد مراقبة العمل الحكومي، ل "أنفاس بريس"، أن المملكة المغربية تعتمد سياسة نقدية محكمة يشرف عليها البنك المركزي، بنك المغرب، الذي يضطلع بدور أساسي في توجيه السياسة النقدية بما يخدم مصلحة الاقتصاد الوطني ويحافظ على توازنه.
ورغم الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها بنك المغرب من طرف صندوق النقد الدولي لتحرير سعر صرف الدرهم أو تعويم الدرهم، فإن بنك المغرب يتعامل مع هذه الدعوات بكثير من الحذر والتدرج، رافضًا الاستجابة المتسرعة لها. ويستند هذا الموقف إلى ما أفرزته تجارب دول أخرى، مثل تركيا أو تونس أو مصر، من آثار اقتصادية سلبية عقب التعويم الكامل لعملاتها الوطنية.
وأكد بنك المغرب اليوم أن أي خطوة إضافية نحو تحرير سعر صرف الدرهم، أو الانتقال إلى التعويم الكامل، تظل رهينة بتوفر الشروط الملائمة في الاقتصاد الوطني.
وفي مقدمة هذه الشروط، يوضح محاورنا:
أولا، تحقيق نسب نمو اقتصادي مستقرة ومتواصلة، تتراوح على مدى عدة سنوات بين 4 و5 في المائة، بل وقد تصل إلى 6 في المائة، بما يعزز مناعة الاقتصاد وقدرته على امتصاص الصدمات.
ثانيا، تتعلق بضرورة الحفاظ على معدل تضخم منخفض جدًا. فهذا الشرط لم يكن متوفرًا خلال السنوات الماضية، إذ سجل التضخم خلال سنتي 2023 و2024 مستويات بلغت 6.6 في المائة و6.1 في المائة على التوالي. ورغم أن المعدل تراجع اليوم إلى أقل من 1 في المائة، فإن ذلك لا يلغي احتمال التعرض لموجة تضخمية جديدة، ما يستوجب الحفاظ على معدل تضخم يتراوح بين 1 و2 في المائة ولسنوات متتالية.
ثالثا، يرتبط بعجز الميزانية، الذي ينبغي بدوره أن يستقر عند مستويات منخفضة. فبعد أن بلغ هذا العجز حوالي 7 في المائة خلال فترة الجائحة، جرى تقليصه تدريجيًا إلى 5 في المائة ثم 4 في المائة، ليستقر حاليًا في حدود 3.5 في المائة، مع توقع نزوله إلى 3 في المائة خلال السنة المقبلة. غير أن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في بلوغ هذا المستوى، بل في الحفاظ عليه لمدة لا تقل عن ثلاث إلى أربع سنوات، على الأقل إلى نهاية العقد الحالي.
رابعا، يرتبط بعجز الميزان التجاري كأحد العوامل الحاسمة، بالنظر إلى ارتباطها المباشر باستقرار العملة الوطنية. فالصادرات المغربية لا تغطي حاليًا سوى ما بين 59 و60 في المائة من الواردات، وهو ما يجعل أي توجه نحو تحرير كامل للدرهم محفوفًا بمخاطر ارتفاع كلفة الواردات، وما يترتب عن ذلك من تأثير مباشر على القدرة الشرائية للمواطنات والمواطنين.
ومن هذا المنطلق، يصبح تعزيز الصادرات أولوية استراتيجية، ليس فقط عبر دعم القطاعات المصدرة الحالية، ولكن أيضًا من خلال توسيع قاعدة المقاولات الموجهة للتصدير.
خامسا، وهو شرط أساسي آخر يتمثل في ضرورة التوفر على احتياطي كافٍ من العملة الصعبة، إذ يبلغ الاحتياطي الحالي ما يعادل حوالي 420 مليار درهم، في حين أن الانتقال إلى التعويم الكامل يتطلب رفع هذا الرقم إلى ما بين 600 و650 مليار درهم.
وبالتالي، يوضح جدري، في ظل غياب كل هذه الشروط مجتمعة، لا يمكن للمملكة المغربية الإقدام على تعويم كامل للدرهم في الظرفية الحالية. غير أنه من حسن حظنا هو أن المؤشرات الماكرو-اقتصادية للمغرب، سواء من حيث حاجته للتمويل الدولي أو حاجته للنمو الاقتصادي المحلي لا ترتبط بشروط صندوق النقد الدولي، مما يجد أمامه هامشًا مهمًا للمناورة، ما يتيح للمغرب إمكانية رفض الضغوط الخارجية في المرحلة الراهنة.
وفي هذا السياق، يسير المغرب اليوم في اتجاه تعزيز هذه الشروط تدريجيًا، تمهيدًا لتحرير كامل محتمل للعملة الوطنية، وهو خيار يظل مطلبًا أساسيًا لدى المستثمرين الأجانب. فالمستثمر، حين يجلب معه استثمارًا بقيمة مليار أورو، يتساءل عن سبب صرفه بسعر محدد قد لا يعكس قيمته الحقيقية مقارنة بما قد يتيحه التعويم من مرونة أكبر.
وخلص جدري تصريحه بالقول إن المغرب يمتلك القدرة على الصمود أمام إملاءات المؤسسات المالية الدولية، شريطة مواصلة هذه الدينامية الاقتصادية وتعميق الإصلاحات الهيكلية. وعند استكمال الشروط الضرورية، يمكن حينها الانتقال إلى التعويم الكامل للدرهم، وإن كان ذلك، وفق المعطيات الحالية، مستبعدًا قبل سنة 2030.