عبد الإلاه القصير: من أجل شراكة جنوب-جنوب متقدمة بين المغرب وإفريقيا في مجال الصحة

عبد الإلاه القصير: من أجل شراكة جنوب-جنوب متقدمة بين المغرب وإفريقيا في مجال الصحة عبد الإلاه القصير
أضحى التعاون جنوب–جنوب اليوم أحد أهم الأطر البديلة لإعادة بناء علاقات دول الجنوب على أسس الندية، وتقاسم الخبرات، وتحقيق التنمية المشتركة بعيدًا عن منطق التبعية. إن التعاون جنوب–جنوب ليس خيارًا إضافيًا او ثانويا، بل ضرورة استراتيجية وحتمية لتنمية مشتركة مستدامة بين دول الجنوب، حيث تمثل الموارد والخبرات المحلية الأساس في بناء حلول فعّالة تتناسب مع خصوصيات كل دولة. ومن المهم التأكيد أن هذا التعاون لا يكون في اتجاه واحد؛ فالدول الشريكة تتبادل الخبرات والمعارف بحيث يستفيد الجميع من التجارب الناجحة، ويتم تطويرها بما يتلاءم مع الاحتياجات المحلية لكل بلد. وإذا كان المغرب قد راكم تجربة رائدة في هذا المجال، خاصة في قطاعات الفلاحة، التكوين المهني، الأبناك، الطاقات المتجددة والبنيات التحتية، فإن قطاع الصحة لا يزال في حاجة إلى دفع أقوى ليأخذ مكانته الطبيعية ضمن هذا التوجه الاستراتيجي، رغم ما يتوفر عليه المغرب من مؤهلات وتجارب متقدمة.
 
لقد شهد النظام الصحي المغربي خلال العقود الأخيرة تطورًا ملحوظًا، سواء على مستوى السياسات العمومية من تعميم التغطية الصحية، إصلاح المنظومة الصحية، وتعزيز الرعاية الصحية الأولية، أو على مستوى تكوين الموارد البشرية، أو في مجال الصناعة الدوائية واللقاحات، إضافة إلى تراكم خبرة معتبرة متقدمة وناجحة في برامج الصحة الإنجابية، صحة الأم والطفل، محاربة الأمراض، والتدبير الوبائي. هذه المكتسبات لا تمثل فقط نجاحًا وطنيًا، بل تشكل رصيدًا إفريقيًا قابلًا للتقاسم والتكييف وفق خصوصيات بلدان الجنوب. ولضمان استفادة الدول الإفريقية الأخرى من هذه التجربة، يصبح من الضروري توثيق هذه الممارسات والبرامج الناجحة بشكل منهجي وعلمي، ليكون هذا التوثيق قاعدة لتبادل المعرفة والمهارات، ونموذجًا يمكن اعتماده وتكييفه حسب احتياجات كل دولة شريكة.
 
إن الاستثمار في شراكة صحية جنوب–جنوب بين المغرب والدول الإفريقية لم يعد ترفًا سياسيًا أو خيارًا ثانويًا، بل ضرورة تنموية وأمنية واستراتيجية في آن واحد. فجائحة كوفيد-19 كشفت هشاشة الأنظمة الصحية في العديد من دول الجنوب، وأبرزت الحاجة إلى سيادة صحية جماعية تقوم على تبادل الخبرات، توطين الصناعات الصحية، تقوية أنظمة المراقبة الوبائية، وتطوير البحث العلمي المشترك. التعاون جنوب–جنوب يتيح للدول تبادل الخبرات والممارسات الناجحة بطريقة عادلة ومستدامة، ويعزز قدرة القارة على مواجهة تحدياتها الصحية دون اعتماد مفرط على الشراكات التقليدية مع دول الشمال.
 
ويكتسي هذا التوجه بعدًا استراتيجيًا واضحًا في الرؤية التي ما فتئ جلالة الملك محمد السادس يؤكد عليها في عدد من خطاباته، حيث شدد على أن التعاون جنوب–جنوب ليس مجرد خطاب تضامني، بل خيار استراتيجي قائم على الفعل والاستثمار طويل الأمد. فقد دعا جلالته مرارًا إلى بناء شراكات إفريقية قائمة على تقاسم التجارب الناجحة، وتعزيز القدرات المحلية، واحترام الخصوصيات الوطنية، معتبرًا أن إفريقيا مطالبة اليوم بالاعتماد على نفسها وبناء حلولها من داخلها.وفي هذا السياق، تبرز الصحة كأحد المجالات الأكثر قابلية لتجسيد هذا التوجه الملكي، لما لها من أثر مباشر على التنمية البشرية، الاستقرار الاجتماعي، والإنتاجية الاقتصادية. فكل استثمار في الصحة هو استثمار في الإنسان، والإنسان هو جوهر أي مشروع تنموي مستدام. كما أن توثيق التجارب الناجحة في المغرب وإتاحتها للدول الشريكة يفتح آفاقًا للتعلم المتبادل ويضمن أن تكون الشراكات مبنية على معرفة علمية وتجارب عملية، بدل أن تبقى مجرد مبادرات محلية.
 
ان اهتمامي بهذا الموضوع لا ينطلق من زاوية نظرية أو أكاديمية فقط، بل من قناعة شخصية وتجربة مهنية متواضعة راكمتها خلال اشتغالي لمدة ثماني سنوات بمنظمة الشركاء في السكان و التنمية بأوغندا، حيث انخرطت بشكل مباشر في قضايا السكان، الصحة الإنجابية، وتقييم البرامج الصحية في سياقات إفريقية مختلفة. وقد لمست عن قرب حجم الحاجة إلى تجارب جنوبية ناجحة، مثل التجربة المغربية، وإلى شراكات مبنية على نقل المعرفة، المواكبة التقنية، وبناء القدرات بدل الحلول الجاهزة المستوردة.
 
لقد أظهرت لي تلك التجربة أن دول إفريقيا لا تعاني من غياب الإرادة، بل من ضعف الولوج إلى نماذج ملهمة قابلة للتكييف، وهو ما يمكن للمغرب أن يقدمه بامتياز، بحكم موقعه الجغرافي، وانتمائه الإفريقي، وتجربته التاريخية في التوفيق بين الحداثة والخصوصية.
 
إن تطوير شراكة جنوب–جنوب في المجال الصحي بين المغرب والدول الإفريقية يتطلب اليوم إدماج الصحة كقطاع ذي أولوية في اتفاقيات التعاون، تشجيع الشراكات بين الجامعات ومراكز البحث والمعاهد الصحية، دعم التكوين المشترك ونقل الخبرات الميدانية، تعزيز الدبلوماسية الصحية المغربية، وتشجيع إشراك الفاعلين غير الحكوميين من جمعيات ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص في جهود توثيق التجارب وتبادلها، بما يعزز الابتكار ويضمن مقاربة تشاركية وشاملة.
 
ومن أجل تحقيق شراكة صحية جنوب–جنوب فعّالة ومستدامة، يمكن تلخيص التوصيات العملية في النقاط التالية:
إدماج الصحة كأولوية استراتيجية ضمن اتفاقيات وبرامج التعاون جنوب–جنوب بين المغرب والدول الإفريقية لضمان استدامة التعاون وتوفير الموارد اللازمة.
 
توثيق التجارب المغربية الناجحة في المجال الصحي بشكل منهجي وعلمي، لتصبح مرجعًا يمكن تبادله وتكييفه وفق خصوصيات واحتياجات الدول الشريكة.
 
انفتاح المغرب على نقل التجارب الناجحة من الدول الإفريقية الأخرى، وتجربتها وتحسينها بما يتوافق مع الواقع المغربي قبل تعميمها محليًا.
 
إحداث منصات إفريقية لتبادل المعرفة والخبرات الصحية، حضورية أو رقمية، لعرض التجارب الموثقة وتنظيم برامج تكوينية وورشات عمل مشتركة.
 
تعزيز الشراكات بين الجامعات ومراكز البحث والمعاهد الصحية في المغرب والدول الإفريقية، وتشجيع البحث التطبيقي المشترك وإنتاج معرفة صحية محلية قابلة للتطبيق.
 
تطوير الدبلوماسية الصحية المغربية كأداة لتعزيز التعاون جنوب–جنوب، من خلال دعم المبادرات المشتركة، تسهيل تنقل الخبراء، والمساهمة في بناء القدرات المؤسساتية للدول الإفريقية.
 
تشجيع إشراك الفاعلين غير الحكوميين من جمعيات ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص في جهود توثيق التجارب وتبادلها، لتعزيز الابتكار وضمان مقاربة شاملة وتشاركية.
 
في الختام، يمكن القول إن التعاون جنوب–جنوب يمثل اليوم مفتاحًا استراتيجيًا لتقوية الصحة في إفريقيا، ويشكل آلية فعّالة لتحقيق تنمية متبادلة ومستدامة، ويحول التجارب الوطنية الناجحة إلى ثروة إفريقية جماعية يمكن أن ترفع مستوى الأداء الصحي لكل الدول المشاركة ودلك في اطار تبادلي ،تضامني وتعاوني، والمغرب في موقع يمكنه من قيادة هذه المبادرة، انسجامًا مع الرؤية الملكية للاستثمار في مستقبل القارة. فالتحديات الصحية مشتركة، ولا يمكن مواجهتها إلا برؤية تضامنية، عملية، منطلقة من الجنوب نحو الجنوب، مع ضمان توثيق الخبرات والممارسات المغربية الناجحة لتكون مرجعًا وإطارًا عمليًا لتطوير شراكات صحية مستدامة.