نعيمة بنعبد العالي: التّنقّل (الزّابينغ) مع الجاحظ.. من حديقة الأدب إلى تشتّت العصر الرّقمي، جماليّة القِطْعَة

نعيمة بنعبد العالي: التّنقّل (الزّابينغ) مع الجاحظ.. من حديقة الأدب إلى تشتّت العصر الرّقمي، جماليّة القِطْعَة نعيمة بنعبد العالي

في البدء كانت هناك دهشة: ذلك الإحساس بـ "الزابينغ" أثناء مطالعة كتب الأدب العربي الكلاسيكي. أعلم أنه مصطلح حديث نشأ في ظل الظروف الراهنة. ولكن عندما أقرأ نصوصا للجاحظ وابن قتيبة والميداني وغيرهم، أشعر وكأنني أتنقل بين القنوات الرقمية. حتى قصائد الجاهلية تبدو وكأنها تمارس هذا النوع من التنقل، كما هو الحال في ألف ليلة وليلة.

ماذا لو كان التنقل بين القنوات، هذه العادة التي ينتقدها الكثيرون، ويعتبرونها تشتّتا ورمزا للتبعثر وفقدان المعنى، هو، في الواقع، الحالة الطبيعية لأفكارنا الداخلية؟ كل ليلة، في خلوة أحلامنا، نختبرها: فسيفساء من الأفكار، تنتقل من صورة إلى أخرى، ومع ذلك تُعاش كسرد موحّد. هل استطاع أساتذة الأدب أن يجسدوا هذه الآلية المعرفية ويحولوها إلى فن الإدراك الواعي؟"

ماذا لو لم يكن "الزّابينغ" مرضًا عابرًا للعصر الرّقمي، بل شكلاً قديماً ونبيلاً من أشكال التّفكير؟ وماذا لو كانت كلاسيكيّات الأدب العربيّ تمنحنا مفتاحًا لإعادة النّظر في علاقتنا بالانتباه والاطّلاع؟ نعيش في ظل خطاب سائد يندد بـ"فقدان التركيز المتواصل"، ويصف "التنقل بين القنوات" بأنه عرَض من أعراض القصور، بل وحتى الانحطاط الفكري. ماذا لو لم تكن هذه الممارسة شذوذًا، بل شكلًا معرفيًا عريقًا ونبيلًا؟

 

هذا يسمح لنا بتجاوز الحنين إلى الماضي ("كانت الأمور أفضل في السابق")، والنظر إلى سلوكياتنا الحالية نظرة أكثر شمولية وأقل وعظًا.

 

سنستكشف أولاً "جماليّة المقتطف" في النّصوص التّقليديّة، ثمّ نواجهها بالتّشتّت المعاصر، لنستخلص في النّهاية آفاقًا خصبة حول حالتنا الإدراكيّة والثّقافيّة.

"التنقّل" العالم – جماليّة مقصودة للفِقْرَة (المقتطف)

يهدف هذا الجزء إلى إثبات أن التّقطيع شكل مُختار، وليس عيبًا.

أوجه تشابه شكلية مثيرة

لنقارن بين صفحة من كتاب الجاحظ تتحدث عن الطفيليين، وسلسلة من التنقل بين قنوات الأخبار، والمسلسلات، وتطبيق تيك توك. في كلتا الحالتين: تغيير مفاجئ في الموضوع، وعنصر المفاجأة/المعرفة، ومقاطع قصيرة.

الفرق الجوهري: في كتاب "الأدب"، يُتقن الكاتب فن التنقل بين الجزئيات ويُقدمه كرحلة. أما على التلفاز أو وسائل التواصل الاجتماعي، فغالبًا ما يكون المستخدم هو من يُغير القنوات بشكل عشوائي، أو تُجبره الخوارزميات على ذلك.

الأدب العربي الكلاسيكي، من خلال بنيته المتداخلة، ربما يُخاطبنا بشكل مباشر في العصر الرقمي أكثر من السرد الخطي للقرن الماضي. فهو يُذكرنا بأن "الزابينغ"، قبل أن يكون مجرد اضطراب في الانتباه، يُمكن أن يكون فنًا للتواصل والاطلاع الممتع. من خلال هذا الربط، يمكن أن نعيد الاعتبار لتعقيد الأشكال الأدبية الكلاسيكية وحداثتها غير المتوقعة:

_ في كتاب الجاحظ أو ابن قتيبة، ينتقل القارئ بسلاسة من الحكاية إلى الحديث النبوي، ومن الملاحظة العلمية إلى الآية أو المثل أو النادرة. الأثر الناتج: علم غزير، ومعرفة موسوعية تُعرض بخطوات واسعة. لنأخذ في كتاب الحيوان للجاحظ فصلاً عن النملة على سبيل المثال. ينتقل بين: 1. الملاحظة الطبيعية (سلوكها). 2. اقتباس قرآني (درس التبصّر). 3. مثل بدوي. 4. حكاية تاريخية. 5. قصيدة عن الطمع. كل انتقال ليس تخلياً عن الموضوع، بل هو مقاربة متعددة الأبعاد لفهم "النملة" كمفهوم أخلاقي واجتماعي وديني.

_ في ألف ليلة وليلة: البنية المتداخلة ليست تقنية بسيطة، بل استعارة للبقاء من خلال سرد القصص. يُعدّ تنقل شهرزاد من قلب الحكايات فعل مقاومة: فلكي تتجنب الموت (النهاية المفاجئة للقصة)، عليها أن تفتح باستمرار فروعًا سردية جديدة. هذا هو فن التشويق من خلال التفرع و التنقّل الحيويّ :

_ تداخل الحكايات كاستراتيجيّة للبقاء.

_ سردٌ يفرّ من الخطيّة ليخلق التّرقب والتنوّع.

التقطيع كتقنيّة سرديّة مُتقَنة..

_ في القصيدة الجاهلية ينتقل الشاعر من (النسب، الرحيل، الغزو...). هذه الانتقالات ليست فواصل، بل خطوات موجهة. الأثر الناتج: رحلة عاطفية وجغرافية، ومنطق ترابطي داخلي.

قصيدة لإمرئ القيس عبارة على "قفزات" مُقنّنة مطابقة للهيكل الكلاسيكيّ (الأطلال، الحبيبة الغائبة، الرحلة...) كأشواط طقوسيّة.

تُشكّل هذه القفزات جغرافيا انفعالية. فالشاعر لا يروي قصة، بل ينقل المستمع عبر عوالم داخلية. منطق ترابطيّ وعاطفيّ، وليس سرديًّا. نوع من المونتاج المضبوط. نلاحظ استمراريّة داخليّة (رحلة الشّاعر) مُقامة على انقطاعات سطحية..

ثقافة مُصمَّمة كمتْحَف منظَّم، تنقُّل عالم.

عندما نحلل عناوين هذه الكتب نجد أنها وعد بقراءة-تنزّهية. يصبح الأدب حديقة نصيّة فجمالية. هذا التقطيع ليس مجرد انطباع للقارئ، بل هو محفور في الصفحة الأولى من الأعمال. فكثيراً ما اختار مؤلفو "الأدب" عناوين تستحضر الحديقة، والمرج المزهر، والنزهة والروض والأزاهر. وهم لا يخفون نيتهم بأن يمنحوا القارئ مساحةً للاستكشاف، فضاءً نصياً يتجول فيه ببهجة، يقطف زهرة حكمة هنا، ويستنشق عبير بيت شعرٍ بديع هناك. فالكتاب ليس مساراً، بل هو حديقة، والقارئ ليس مسافراً على عجل، بل متجول مدعو إلى النزهة، إلى رحلة فكرية. وبذلك، يرسخون ويحتفون بما نسميه أحياناً، بنوع من الازدراء، "التصفح السريع": تجوالاً معرفياً، وفضولاً منهجياً، وعملية فكرية تتقدم عبر المنعطفات والاكتشافات.

 

فن التقطيع له امتدادات ووجهات نظر غير متوقعة. لنقارن مع تقاليد أخرى:

_ مقالات مونتين: هو أيضاً استخدم أسلوب "الاستطرادات" (الاستطرادات، والاقتباسات اللاتينية، والحكايات الشخصية) بهدف معرفة الذات. وهذا يُضفي طابعاً عالمياً على هذا الأسلوب. _"المختارات" في عصر النهضة أو "السيلفاي" القديمة: تُظهر أن هذا الشكل ليس معزولاً، ويجد صدىً منهجياً ونظرياً مميزاً في الثقافة العربية الكلاسيكية.

 

الصلة بالإبداع الرقمي المعاصر:

_ "سلسلة التغريدات" على تويتر/إكس: هل تُعد سلسلة التغريدات القصيرة حول موضوع ما، مع الاستطرادات والمتابعات، شكلاً حديثاً من أشكال الأدب القديم؟

_ قنوات يوتيوب علمية/شعبية تجمع بين الرسوم المتحركة والمقابلات والأغاني والفكاهة، بأسلوب متنوع يهدف التثقيف والترفيه.

_ الرابط التشعبي: عنصر أساسي في الإنترنت. قراءة موقع الأدب تعني اتباع الروابط التشعبية التي أدرجها المؤلف في نصه.

 

تأملات نقدية و تحفظات

يمكن النظر إلى الأدب أحيانًا على أنه نوع من التراخي في التلخيص. قد يُستخدم التراكم أحيانًا لتجنب اتخاذ موقف، أو لعرض آراء متضاربة دون تجاوزها. هذه ميزة (تواضع) ولكنها أيضًا قيد محتمل.

شروط الاستقبال: من يستطيع الوصول إلى هذا النوع من التجول؟ يفترض هذا الشكل قارئًا مثقفًا قادرًا على تمييز التلميحات. إنه فن نخبة، بينما تصفح القنوات الرقمية، ظاهريًا، ديمقراطي.

هناك فرق آخر، يكمن في سرعة التلقي: يتم تصفح الكتب التقليدية بسرعة القراءة والتأمل. أما تصفح القنوات الرقمية فيتم بسرعة النقر والتمرير. هذا الاختلاف في الإيقاع يغير كل شيء على المستويين المعرفي والعاطفي. ربما يكون هذا هو العنصر الأكثر أهمية.

 

من الناحية النظرية يمكن أن نسترجع بعض المفاهيم لتعميق التحليل:

_ مفهوم "الجذمور" (دولوز وغواتاري): استخدم هذا المفهوم لوصف بنية الأدب - كنظام دلالي غير هرمي، بلا مركز أو نقطة بداية واحدة، حيث يمكن ربط كل عنصر بآخر. يمكن مقارنته ببنية الشجرة (النموذج الخطي/الهرمي). إنه استعارة فلسفية بليغة في هذا المجال.

_ "التناص" قبل أوانه: هذه النصوص حوار مستمر مع مجمل التراث الثقافي العربي. الاقتباس ليس دليلاً قاطعاً، بل إشارة، حوار مع التراث. يضع المؤلف نفسه كوسيط ضمن شبكة من النصوص.

_ الذكاء "الاستباقي": هو ذكاء جماعي حيث توجه آثار البعض أفعال الآخرين. يعمل الأدب على هذا النحو: يترك كل مؤلف "آثارًا" (اقتباسات، حكايات) يأخذها المؤلف التالي ويعيد ترتيبها، ويبني المعرفة من خلال التراكم وإعادة التنظيم، وليس من خلال البدء من الصفر.

مارس العرب القدماء (أساتذة الأدب العظام على الأقل) هذا الفن بوعيٍ تام، وبغايةٍ جمالية وفكرية واضحة. لم تكن القيود المادية والثقافية في عصرهم عوائق، بل كانت الإطار الذي دفعوا من خلاله هذا الفن إلى أقصى درجات الرقي. ما يبدو لنا اليوم مجرد "تصفح عشوائي" كان، في سياقه، تعبيرًا عن فكرٍ معقد، واعٍ، وغير خطي عمدًا. لم يعانوا من التشتت، بل صقلوه كفن. كلمة"نثر" المستعملة لوصف الكلام غير الموزون توحي لنا بهذا التبعثر المنشود.

الحديث عن "السهولة" أو "القيود" سيكون تبسيطاً مفرطاً. لقد كان الأمر أقرب إلى خيار مقيد أو فرصة مُحسّنة ثقافياً - مزيج بين القيود العملية، ورؤية للعالم، وجمالية متعمدة :

_التواصل الشفهي الأساسي: تشكّل جزء كبير من هذه الثقافة في بيئة ذات تقاليد شفهية راسخة. يُفضّل الحفظ وحدات سردية مُجزّأة، كُتل مستقلة (حكايات، أمثال، أبيات شعرية) قابلة لإعادة الترتيب. لا يُعدّ هذا "قيدًا"، بل مادة أساسية ذات خصائص مُحدّدة، كطوب البناء.

_السند الكتابي: كانت المخطوطات الأولى ثمينة، وغالبًا ما كانت لفائف (مجلدات) يصعب تصفّحها. لا يُعدّ الهيكل الخطي المتصل "أسهل" في الرجوع إليه من الهيكل الموضوعي القائم على أجزاء. في الواقع، يُعدّ نظام "الأدب" (الذي يجمع كل ما يتعلق بموضوع ما) حلًا بارعًا لتنظيم المعرفة، أشبه بـ"قاعدة بيانات" على اللفيفة.

_جمع الاقتباسات والحكايات والأشعار من مختلف العصور والقبائل، وترتيبها بأسلوبٍ يجمع بين المتعة والفائدة، يتطلب سعة اطلاعٍ هائلة وحسًّا دقيقًا في التأليف. لم يكن الأمر سهلًا على الإطلاق، بل كان جهدًا دؤوبًا استمرّ طوال العمر. فقد عُرف الجاحظ، على سبيل المثال، بمراقبته للعالم، وجمعه للقصص، وقراءته لكلّ ما استطاع. إنّ عمله ثمرةُ بحثٍ علميٍّ دقيقٍ وترتيبٍ مُتقن.

 

_الوعي الجمالي والفلسفي: هذه هي النقطة الأهم. لقد فعلوا ذلك عن وعي، لأن هذا الشكل يتوافق مع رؤيتهم للمعرفة واللغة والعالم.

× نظرية المعرفة القائمة على التجميع: بالنسبة لهم، لم تكن الحكمة والحقيقة حكرًا على نظام واحد مغلق، بل كانت متناثرة عبر الزمن، بين مختلف القبائل والشعراء والحكماء القدماء والملاحظات الطبيعية والنصوص المقدسة. كان دور الكاتب (الأديب) جمع هذه الشظايا من الحقيقة لتشكيل صورة بانورامية تعكس بشكل أدق واقع العالم المعقد.

× جماليات "المفاجأة": لقد استحسنوا التنوع والزخرفة والقدرة على إثارة دهشة القارئ وإبهاره. كان الانتقال من موضوع إلى آخر وسيلة لعرض ثقافتهم، وأيضًا للحفاظ على وعي القارئ ومتعته. لقد كانت لعبة أدبية واعية.

 

الجذور والمشروعيّة: صدى النّصوص المقدّسة

شكّل هذا النّسق المقدَّس أُذنَ القارئ وعقلَه، وشرعَنَ جماليّة التّقطيع في الثّقافة العالمة. لا يقتصر هذا الميل إلى التفكير المجزأ على المجال الدنيوي للمعرفة، بل يتغلغل أيضًا في النصوص التأسيسية للثقافة العربية الإسلامية. فقد شكّلت تلك النصوص، من خلال بنيتهما المجزأة واستخدامهما للأمثال والصور البليغة والسرد المتقطع، عقول أجيال من العلماء. وقد أضفيا شرعية على شكل من أشكال المعرفة التي تتطور عبر ومضات من الإلهام والترابطات. وفي هذا الصدد، لا يستغل الأدب مجرد أسلوب أدبي، بل يستمد من منبع جمالية مقدسة للجزء. فهو ينقل إلى عالم المعرفة الإنسانية والترفيه الراقي نمطًا من التعبير تجلّت قوته وجماله لأول مرة في عالم الوحي. وحديقة الأدب، بمعنى ما، صدى دنيوي بهيج لهذا النور البدائي.

نلاحظ هذا الربط الجوهري بين الأساس الروحي والتعبير الثقافي. فهو يُظهر أن "التنقل" الذي نتحدث عنه ليس مجرد آلية، بل ربما يكون تعبيرًا عميقًا عن طريقة معينة في التعامل مع العالم واللغة، طريقة ينبثق فيها المعنى من التناقض والصدى، بقدر ما ينبثق من العرض والإثبات الخطي.

التّنقّل الرّقميّ مقابل النّزهة العالمة – منطقان متعارضان

يُقارن هذا الجزء بين التّقطيع المُفْروض والتّقطيع المُختار.

التّنقّل المعاصر: التّيه اللامتناهي

_وليد الوفرة (الفيض، الإشعارات) واقتصاد الانتباه.

_المنطق: تراكم ردّ الفعل، بدون مشروع، غالبًا ما يكون مُحرَّضًا بواسطة الخوارزميّة.

_ العاقبة الإدراكيّة: تعب، إحساس بالفراغ، صعوبة في خلق الرّوابط.

"التّنقّل" الكلاسيكيّ: النّزهة المُتأمّلة

_ تقطيع في خدمة غاية (التّعليم، التّرفيه، المدح).

لمنطق: ترتيب مُتعمَّد، مونتاج عالم، مسار مُفكَّر فيه.

_ العاقبة الإدراكيّة: تحفيز فاعل، متعة الوصل، بناء المعنى.

الاستعارة البنيويّة: التّائه مقابل المُتَنَزِّه

_ التّائه (الرّقميّ): انحراف بدون خريطة، يدفعه التيّار.

_ المُتَنَزِّه (الكّلاسيكيّ): مُتجوّل سيّد في حديقة مُصمَّمة.

يقودنا هذا التّعارض إلى مساءلة قدرتنا نحن على سكنى التّقطيع.

بغض النظر عن أوجه التشابه الشكلية، فإن كل شيء يتوقف على النية الكامنة وراء الرحلة. يمكننا المقارنة بين شخصيتين: الفرد التائه الذي غرق في بحر المعلومات، والمتجول المثقف. ترحال لا ينتهي، حيث الثابت الوحيد هو التغيير نفسه.

لا يكمن الاختلاف في الحركة نفسها، بل في قواعدها. فالأولى عبارة عن سلسلة من حروف العطف ("ثم... ثم...") التي تربط العناصر المتكافئة. أما الثانية فهي تركيب تابع ("لتوضيح هذا...، مما يذكرنا بأن...")، حيث يخدم كل جزء منها غرضًا يتجاوزه.

 

دروسٌ للزّمن الحاضر – إعادة تعلّم فنّ "التّنقّل" بأناقة

يستخلص هذا الجزء منظورات عمليّة وفلسفيّة من هذه المقارنة.

أ. نحو أخلاقيّات للانتباه الرّحل

_ تقبّل التّقطيع كحالة حداثيّة، لكنّ رفض التّيه.

_ الاستفادة من الأدب: جعل التنوّع مشروعًا، والفضول منهجًا.

_الفكرة: تنمية "تنقّل مُتعمَّد" – التّنقُّل بسؤال، بموضوع، بفضولٍ موجِّه.

ب. التّفكير في فسيفساء: كفاءة إدراكيّة يجب إعادة تأهيلها

بالتالي فإن العلاقة بين الحلم والتجزئة النصية هي أكثر بكثير من مجرد تشبيه بسيط: إنها مفتاح معرفي يوضح أن الفكر البشري ليس خطيًا ولا منطقيًا بالمعنى الدقيق للكلمة - إنه ترابطي ورمزي، ويسعى دائمًا إلى نسج السرد من الانقطاع :

نحن ممزقون بين: الرغبة في الاستمرارية، في سرد ​​متماسك، في التركيز من جهة، وجاذبية التنوع، والمفاجأة، والإثارة السريعة، من جهة أخرى. هذا التوتر ليس جديدًا. فقد رسّخت الأدبيات العربية الكلاسيكية هذا التوتر وجعلته فنًا. وهذا يدعونا إلى البحث عن حلول لا تكمن في منع التنقل بين القنوات، بل في إتقانه والارتقاء به.

يطرح هذا سؤالاً عميقاً: كيف نبني المعنى؟

_ هل يتم ذلك حصراً من خلال التسلسل المنطقي الخطي (النموذج الغربي ما بعد عصر التنوير)؟ _ أم أيضاً من خلال الترابطات والتجميعات والقطع المتناثرة - نموذج فسيفسائي؟ يظهر أن الدماغ البشري قد يكون أكثر ملاءمةً للشكل الثاني مما نتصور. وهذا يُشكك في نموذجنا السردي السائد (الرواية، الفيلم الخطي) لصالح نماذج أخرى لا تقل ثراءً.

تعتمد العديد من الأشكال الفنية والإعلامية الحالية (مثل سلاسل تغريدات تويتر، وقصص إنستغرام، ومونتاجات فيديوهات تيك توك، والمسلسلات ذات السرد المجزأ) على جمالية التجزئة. من خلال إثبات أن لهذه الجمالية تاريخًا عريقًا وشرعية، نستطيع فهم هذه الأشكال بطريقة أفضل وتقييمها بمزيد من الدقة (هل هي مجرد "تنقل عشوائي بين القنوات" أم "تحرير واعٍ"؟). قد يكون هذا اقتراحا للمصالحة، مصالحة بين القديم والجديد، بين التشتت والتماسك، بين العلم والحياة اليومية.

لا تكمن المشكلة في القفزة نفسها - إذ تُثبت أرقى تقاليدنا الأدبية ذلك - بل في الفيضان. لأن التدفق الرقمي المعاصر يضعنا تحت وطأة سيل متواصل لا يسمح لنا بالارتواء، بل بالاختناق. لقد تم تجاوز العتبة عندما توقف التنقل بين القنوات عن كونه وسيلة للتصفح، وأصبح هو البيئة التي نفكر وندرك في أحضانها. تطوير مقترح: إذ لم نعد نتنقل بين القنوات بين المحتوى؛ بل نعيش في حالة تنقل دائم. هذه الجرعة العالية هي "المُعطِّلةفهي تعيق قدرتنا الفطرية والحيوية على تحويل التتابع إلى تسلسل، والتجزئة إلى فسيفساء، والضجيج إلى معنى. تُذكّرنا هذه الأفكار بأن العقل يحتاج إلى فترة راحة بين كل قفزة ذهنية، ليستوعب المعلومات المتفرقة، وليُمارس سيادته على نفسه لبناء الروابط. "التّنقّل" (الزّابينغ) ليس هو المشكلة؛ بل فقدان السّيادة على مسارات انتباهنا. تذكّرنا كلاسيكيّاتنا بأنّ بالإمكان التّفكير بقطع دون التّفكير في قطع. ماذا لو كان، في زمن الفيض المستمرّ، أجمل أشكال المقاومة هو أن نعود بستانيّين للمعرفة، مُتَنَزِّهين رقميّين، ورثة واعين لهذا الفنّ القديم الذي جعل من التّجوّل طريقًا ملكيًّة نحو الحكمة والجمال؟

 

"في نهاية المطاف، لا يُعلّمنا الحكماء العرب القدماء دروسًا في العلم أو المنهجية فحسب، بل يُقدّمون لنا درسًا في البهجة: بهجة التجوال في أرضٍ مألوفة، والتيه لنعود إليها، والتفاعل بجدية مع شظايا العالم. في زمنٍ يُطارد فيه انتباهنا ويُلاحق ويُستغل تجاريًا، فإن استعادة حقنا في التأمل الواعي، والتأمل في مواضيع علمية، والتنقل بين القنوات التلفزيونية بإلمام، ربما يكون شكلًا خفيًا من أشكال المقاومة المبهجة.

ما الذي يمكننا استخلاصه من هذه الرحلة الأدبية بصحبة الجاحظ وشهرزاد؟ لعلّ هذا هو الجواب: إن عصرنا، الذي يُتهم غالبًا بجعلنا نفقد الخيط، يدعونا في الواقع إلى إعادة تعريف مفهوم الخيط. فالخيط ليس بالضرورة خطًا مستقيمًا مشدودًا، بل قد يكون رحلة متعرجة ثرية، حيث تُغيّر كل خطوة الوجهة قليلًا. إن إظهار الأدب العربي الكلاسيكي لنا أنه بإمكاننا التنقل بين القنوات دون أن نتيه، لا يُقدّم لنا حنينًا إلى الماضي. إنهم يقدمون لنا طريقة للمستقبل: طريقة الانتباه المترحل والفضولي والسيادي، القادر على تحويل تنوع العالم ليس إلى متاهة مثيرة للقلق، بل إلى مادة معنى في بناء دائم ومبهج.