سعيد العزوزي: حين تتكرر الفواجع من يتحمل مسؤولية فشل سياسة المدينة؟

سعيد العزوزي: حين تتكرر الفواجع من يتحمل مسؤولية فشل سياسة المدينة؟ سعيد العزوزي
كل عام تباغتنا الطبيعة بفاجعة جديدة، كأنها تذكير قاس بحدود قدرتنا على الفهم والاستباق ومع كل فاجعة يتجدد الأمل في أن تتحول الصدمة إلى وعي مجتمعي  وأن نستخلص من قسوة الطبيعة دروس تترجم إلى سياسات يقظة، تعبئ مختلف الجهات المؤتمنة على أرواح العباد، و الساهرة على سلامة المواطن عبر قراءة متأنية لتاريخ الكوارث التي شهدتها المدن المغربية، وعبر اعتماد نهج تشاركي استشاري يجعل الوقاية أولوية لا شعارا مناسباتي للاستهلاك و التباهي. 
غير أن الواقع كثيرا ما يكشف عكس ذلك، فمع كل كارثة طبيعية  نبدو كالتلميذ الذي يرفض مغادرة فصل الإخفاق، ويصر على تكرار الدرس نفسه، ليس لأن المعرفة غائبة بل لأن الإرادة الجماعية في تحويلها إلى فعل ما تزال مؤجلة في زحمة مشاريع وبرامج  قاصرة عن فهم معنى التنمية بمفهومها الشامل الذي يستحضر أتر التحولات المناخية في صلب التخطيط العمراني للمدينة .
و لأن فاجعة فيضانات واد الشعبة بمدينة آسفي التي أودت بحياة حوالي 50 إنسان و اتت على الأخضر و اليابس بالمدينة القديمة  ليست الأولى و لن تكون الأخيرة و هي ليست حادثا طبيعيا عابرا يمكن اختزاله في منطق «القدر»، بقدر ما تشكل  لحظة من عديد اللحظات الصادمة التي تكشفت، بحدة مؤلمة، عن أعطاب بنيوية في تصورنا للمدينة وفي علاقتنا بالمجال وبالإنسان. 
فعندما تجرف السيول الأرواح قبل المباني، وتهدم في ساعات ما بني في سنوات، يصبح السؤال سياسيا وتخطيطيا وأخلاقيا بامتياز، لا مجرد مسألة مرتبطة بقوة الطبيعة. ما وقع لم يكن فقط فيضان واد، بقدر ماهو  تعرية لواقع مرير يمكن وصفه  باختلالات بنيوية راكمتها سياسات حضرية افتقدت للرؤية والاستباق.
لقد عرت هذه الفاجعة هشاشة البنى التحتية، وأظهرت أن ما يقدم أحيانا باعتباره تجهيزا حضريا لم يكن سوى حلول ترقيعية، عاجزة عن الصمود أمام أول اختبار طبيعي حقيقي... شبكات صرف لم تصمم على أساس التحولات المناخية المتسارعة، ومجاري مائية حوصرت بالإسمنت، وأحياء أقيمت داخل مجالات فيضية معروفة تاريخيا، قبل أن نفاجأ حين يستعيد الواد مجراه الطبيعي ويطالب بحقه في المجال.
 هنا لا يعود السؤال: لماذا فاض الواد؟ بل لماذا أصررنا على تجاهل منطق الطبيعة وسمح المسؤولين بالبناء فوق ذاكرته؟
ومن يعتقد أن سنوات الجفاف تجعل المدينة بعيدة عن الكوارث، أو أن ندرة التساقطات تحصن المجال من المخاطر، يقع في وهم خطير.
 فالتغيرات المناخية قلبت منطق التوقعات، وجعلت من الندرة نفسها عامل تهديد، حيث تتحول أمطار قليلة ومركزة إلى قوة تدميرية مضاعفة وتكفينا أمثلة قريبة لتفنيد هذا الاعتقاد، من كارثة المغرب الشرقي، إلى ما شهده إقليم طاطا على وجه الخصوص، حيث جاءت السيول مباغتة وعنيفة، وكشفت مرة أخرى أن غياب الاستعداد أخطر من عنف الطبيعة نفسها. فسنوات الجفاف لا تلغي الخطر القادم من المحهول، بل تؤجله وتراكِمه، وحين تعود المياه تجد مدنا هشة وتخطيطا لم يراجع وبنى تحتية لم تختبر.
إن سياسة المدينة، كما تمارس في كثير من الحالات، ما تزال أسيرة منطق التدبير الظرفي والعقل الانتخابي قصير النفس، بدل أن تكون تعبيرا عن رؤية استراتيجية بعيدة المدى تضع حماية الإنسان في صلب أولوياتها والتخطيط العمراني عوض أن يشكل أداة للوقاية وضمان الحق في الأمان، تحول في بعض السياقات إلى مجرد آلية لتكثيف الإسمنت وتوسيع العمران دون اكتراث بحمولة الأرض ولا بحدود الطبيعة. وفاجعة واد الشعبة جاءت لتؤكد أن الطبيعة لا تتفاوض، وأنها حين تقصى من التخطيط تعود لتفرض منطقها بقسوة.
وتتحمل وزارة التجهيز والتخطيط العمراني مسؤولية محورية في هذا السياق، ليس فقط من حيث الإنجاز التقني، بل من حيث بناء الرؤية الوطنية للمدينة الآمنة والعادلة.
 فالسؤال الجوهري اليوم هو: إلى أي حد تدرج المخاطر المناخية والفيضانية في وثائق التهيئة؟ وهل تتحول الدراسات المنجزة إلى قرارات ملزمة، أم تبقى حبيسة التقارير؟ إن الفجوة بين المعرفة والقرار تظل أحد أعطاب السياسات العمومية، حيث نمتلك المعطيات لكن نفتقد الجرأة السياسية لتفعيلها قبل وقوع الكارثة.
أما الجماعات الترابية، ورغم اشتغالها في سياق معقد وضاغط، فهي تظل في صلب المسؤولية بحكم قربها من المجال ومن الساكنة. فالتراخيص والتغاضي عن الخروقات، والصمت عن البناء في مناطق الخطر، كلها اختيارات لها كلفة، وقد دفعتها ساكنة آسفي من أرواحها ومساكنها. 
فالجماعة ليست فقط جهازا للتدبير اليومي، فعي فاعل أساسي في حماية الحق في الحياة، وكل تقصير في هذا الدور هو تقصير في جوهر السياسة المحلية.
وفي مقابل هذا الاختلال، يبرز المجتمع المدني كضمير يقظ، حاضر بقوة بعد وقوع الفاجعة في الدعم والتضامن والمواكبة الإنسانية، لكنه غالبا ما يقصى قبلها من دوائر القرار والتخطيط. ورغم ذلك، أثبتت الجمعيات مرة أخرى أنها عنصر توازن اجتماعي حين تغيب الرؤية، غير أن مدينة تدار بالارتجال لا يمكن إنقاذها بالفعل التطوعي وحده.
ولا يمكن إعفاء الأحزاب السياسية من مسؤوليتها، وهي التي يفترض أن تقدم تصورات حضرية واضحة داخل المؤسسات المنتخبة حيث غياب المدينة عن صلب البرامج السياسية، أو اختزالها في وعود عامة، يفرغ العمل السياسي من بعده المجالي والإنساني ولعل  فاجعة واد الشعبة ليست فقط مأساة إنسانية، بل تعبير عن فشل جماعي في تخيل المدينة كفضاء للعيش الآمن، لا كمجال للاستثمار السريع فقط.
إن ما جرى بآسفي يفرض مراجعة جذرية لسياسة المدينة، مراجعة تنطلق من سؤال بسيط وعميق: هل نخطط للإنسان أم نبني ضده؟ فالمدينة التي لا تحمي أضعف ساكنيها، ولا تحترم ذاكرة مجالها، مدينة مرشحة لإعادة إنتاج المأساة. وفاجعة واد الشعبة، بما خلفته من خسائر فادحة في الأرواح والمباني والبنى التحتية، ليست حدثا معزولا في تاريخ الموارث بالمغرب إنها إنذار متجدد يضعنا امام اسئلة حارقة حول مفهوم التنمية المحالية .
وفي هذا السياق الأليم لا نملك إلا أن نترحم بخشوع على أرواح الضحايا، ونتقدم بخالص التعازي إلى أسرهم وذويهم، سائلين الله أن يتغمدهم بواسع رحمته، وأن يمن بالشفاء العاجل على الجرحى والمصابين، وأن يلهم الجميع الصبر والسلوان. أما واجب الأحياء، فأن يحولوا هذا الحزن إلى وعي، وهذه الفاجعة إلى لحظة مساءلة حقيقية، حتى لا تتحول المدن مرة أخرى إلى مقابر مفتوحة عند أول اختبار للمطر.