وجود ملعب دولي بسلا يسمح بالاحتفاظ الطبيعي بجزء كبير من جمهور هذه الحاضرة السكانية الكبرى، بدل دفعهم قسرًا نحو الرباط كمدٍّ بشري غير قابل للضبط .
ليست كل قرارات البنية التحتية قرارات إسمنت وحديد. بعضها قرارات رؤية.
إن تشييد ملعب كبير بالمعايير الدولية لكرة القدم بمدينة سلا، المدينة المتاخمة للرباط وثاني أكبر مدينة من حيث عدد السكان في المملكة، ليس ترفًا عمرانياً ولا مطلبًا محليًا ضيق الأفق.
إنه خيار استراتيجي بامتياز، يجمع بين البعد الأمني والاقتصادي والاجتماعي والوطني، في لحظة يستعد فيها المغرب لاحتضان كأس العالم لكرة القدم.
تجاهل هذه الحقيقة يعني الإصرار على رؤية مركزية، مشبعة، ومتجاوزة للمجال الحضري.
أما تبنيها، فيعني إدخال المغرب إلى حداثة ذكية، متوازنة، وشجاعة.
الأمن أولاً: توزيع ذكي لحماية أفضل
مباراة كأس العالم لا تُلعب فقط فوق المستطيل الأخضر. إنها تُلعب في وسائل النقل، في الشوارع، في المحطات، على المحاور الطرقية، في المستشفيات، وفي منظومات الوقاية المدنية والأمن.
تركيز عشرات، بل مئات الآلاف من المتفرجين في مدينة واحدة ذات كثافة عالية، هو صناعة مباشرة للمخاطر.
أما توزيع التدفقات البشرية بين الرباط وسلا، فهو تنظيم واعٍ للأمن.
وجود ملعب دولي بسلا يسمح بالاحتفاظ الطبيعي بجزء كبير من جمهور هذه الحاضرة السكانية الكبرى، بدل دفعهم قسرًا نحو الرباط كمدٍّ بشري غير قابل للضبط.
ازدحام أقل، توتر أقل، انسيابية أكبر، وقدرة أعلى على التدخل.
في مجال السلامة العامة، القاعدة واضحة وعالمية:
التوزيع المحكوم يحمي أكثر من التركيز المفروض.
الرباط تتحدث… ودينامية تستدعي توازناً مجاليًا
إن بناء وتحديث ملاعب جديدة بالرباط بمناسبة كأس إفريقيا للأمم يعكس طموحًا واضحًا للدولة: تزويد العاصمة ببنيات رياضية ذات مستوى دولي. وهو خيار مشروع، ضروري، واستراتيجي.
لكن هذه الدينامية لا يمكن أن تبقى أحادية الاتجاه. فالعاصمة الحديثة لم تعد تُفكَّر بمعزل عن محيطها، بل ضمن منظومة حضرية موسعة، تؤدي فيها المدن المتاخمة أدوارًا تكاملية.
تجهيز سلا بملعب كبير لا يعني منافسة الرباط، بل يعني توسيع إشعاعها بشكل ذكي، وتعزيز القدرة الاستيعابية للقطب الرباط–سلا، وتأمين التظاهرات الكبرى القادمة.
الاقتصاد: إدخال سلا إلى دائرة المدن المؤثرة
سلا ليست مدينة هامشية.
إنها مدينة تاريخية، شعبية، كثيفة، نابضة بالحياة. لكنها ظلت، في كثير من الأحيان، محصورة في دور “مدينة نوم”، ومغيّبة عن المشاريع الهيكلية الكبرى.
الملعب الكبير ،" الحسن الثالث" ، إذا أُنجز برؤية واضحة، هو محرك اقتصادي حقيقي، ولو في مستقبل بعيد.
يخلق فرص شغل مباشرة وغير مباشرة، ينعش التجارة المحلية، يجذب الاستثمار، ويحفّز قطاعات الفندقة والمطاعم والخدمات والنقل.
كما يعيد الاعتبار للمجال المحيط به: الطرق، الفضاءات العمومية، التجهيزات، وجاذبية العقار.
مدن "مانشستر"، "كارديف"، "كيب تاون" فهمت هذا الدرس جيدًا:
الملعب ليس غاية في حد ذاته، بل أداة لإعادة تشكيل المدينة.
فلماذا يكون ما نجح هناك مستحيلاً في سلا؟
السياحة: تثمين سلا يعني تسويق ضفتي أبي رقراق معًا
تثمين سلا لا يعني إضعاف الرباط.
بل على العكس، يعني تسويق موقع أبي رقراق ككل متكامل، على ضفتيه معًا.
وجود ملعب كبير بسلا سيعزز الجاذبية السياحية العامة للنهر:
مدينة سلا العتيقة، أسوارها، حرفيوها، مساراتها الثقافية، وفي الوقت نفسه البنيات السياحية بالضفة الرباطية، من مرافئ، وفضاءات ثقافية، وفنادق، ومتنزهات.
السائح لا يفكر بمنطق الحدود الإدارية.
إنه يعيش تجربة مجالية متكاملة.
وكلما زادت سلا حضورًا، أصبح أبي رقراق أكثر وضوحًا، انسجامًا، وجاذبية كوجهة حضرية كبرى.
كرة القدم: منح الجمعية السلاوية أدوات الطموح
الملعب الكبير ليس فقط أداة لكأس العالم. إنه بنية تحتية للأداء الرياضي المحلي.
والطموح مشروع، وكل شيء يبدأ بالحلم: جعل الجمعية الرياضية السلاوية بطلاً للمغرب في أفق 2030. لكن الأحلام لا تتحقق بالشعارات، بل بالاستثمار الهيكلي.
الملعب يعني: مداخيل قارة، قاعدة جماهيرية وفية، هوية قوية،
أكاديمية تكوين ذات مصداقية،
ومحيط حديث للأداء الرياضي.
لا يولد نادٍ كبير بلا بيت ( مكتب وملعب وجمهور). ولا يُصنع لقب وطني بلا أدوات.
عدالة مجالية وكرامة وطنية
مغرب الغد لن يُبنى بتكديس كل شيء في مكان واحد. سيُبنى بالتوازن، وبإعادة التوزيع، وبالثقة في المدن الشعبية.
منح ملعب كبير لسلا لا يعني سحب شيء من الرباط. بل يعني تقوية الكل.
يعني القول إن التنمية ليست حكرًا على واجهات محدودة. وإن كل مدينة كبرى تستحق مشروعًا يوازي حجم سكانها وإمكاناتها.
وفي الوقت الذي يخاطب فيه المغرب العالم عبر كرة القدم، العربية والإفريقية والعالمية، يبدو من المفارقة أن تُترك واحدة من أكبر مدنه تراقب التاريخ… من مدرجات الآخرين.
الملعب الدولي لكرة القدم بسلا ليس ترفًا .
إنه خيار للأمن، وللاقتصاد، وللكرامة، وللطموح الوطني .
الدكتور أنور الشرقاوي
فاعل جمعوي