ليست كرة القدم هي ما يصنع الدهشة في إنتصارات الفريق الوطني المغربي، ولا الأهداف التي تهز الشباك ولا الكؤوس التي تلمع تحت الأضواء، بل تلك الحقيقة الصامتة التي تمشي خلف اللاعبين ولا ترافقهم إلى المنصات. الحقيقة التي لا تصوَّر ولا يصفَّق لها، لكنها كانت هناك منذ اللحظة الأولى: الأم. فقبل أن يرفع العلم، وقبل أن يعزف النشيد، وقبل أن يتعلم اللاعب كيف يركض خلف الكرة، كانت أم مغربية في بيت بعيد عن المغرب تزرع شيئا أخطر من المهارة… تزرع الانتماء.
نفرح اليوم بانتصارات تهز الوجدان، من الكأس العربي إلى كل مباراة يتحول فيها المنتخب إلى مرآة لوطن كامل، لكن السؤال الأعمق لا يسكن المدرجات بل البيوت. كيف لأبناء ولد أغلبهم خارج الحدود، وترعرعوا وسط لغات وثقافات أخرى، أن يحملوا المغرب في قلوبهم بهذا الصفاء وهذه الحماسة؟ الجواب ليس في برامج رسمية ولا في خطابات مناسباتية، بل في الأمهات اللواتي حملن الوطن مع أطفالهن كما يحملن أسماءهم.
الأم تاريخيا لم تكن يوما تفصيلا في صناعة الإنسان، بل كانت الأصل حين يغيب الأصل، والسند حين ينكسر السند. التاريخ الديني والإنساني يقول ذلك بوضوح لا يحتاج إلى برهان. رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وُلد دون أب، ومع ذلك خرج للعالم أعظم نموذج للخلق والرسالة، لأن أمّا إسمها آمنة غرست فيه المعنى قبل أن ينزل الوحي.
موسى عليه السلام لم يذكر القرآن أباه في لحظة الخطر، بل ذكر أمه وأخته، لأن الرسالات حين تكون في مهدها لا يحرسها إلا قلب إمرأة.. الأم كانت دائما إمتداد التربية، والركن الذي لا يرى لكنه يحمل السقف كله.
وهكذا هن أمهات لاعبينا اليوم. نساء حملن عبء الهوية في زمن الغربة، حين كان من السهل أن يذوب الأبناء في مجتمعات جديدة، وحين كان الانتماء إختيارا لا قدرا. كن يربين أبناءهن على أن المغرب ليس مكانا فقط، بل ذاكرة، ولغة، وحكاية، وإسم عائلة لا يسقط بالتقادم. كن يصنعن الوطن في التفاصيل الصغيرة، في الأكل، في الدعاء، في القصص، في تصحيح لهجة، وفي دمعة خفية حين يساء فهم المغرب في الخارج.
لهذا، وأنا أحيي الفريق الوطني، أختار أن أنحني في اتجاه آخر. أنحني للأمهات. للأيادي التي أنفقت دون حساب، وللقلوب التي صبرت دون ضجيج، وللنساء اللواتي ربين أبطالا دون أن يطلبن مقابلا. هؤلاء لم يسجلن الأهداف، لكنهن من علمن أبناءهن لماذا يستحق الوطن أن يدافع عنه. هذه الكلمة ليست إحتفالا بالانتصار، بل محاولة لرد الاعتبار. رد الاعتبار للأم بدل الاكتفاء بالإبن، وللبيت بدل الاكتفاء بالملعب، وللهوية بدل الاكتفاء بالنتيجة.
إن أبناء الجالية ليسوا إمتدادا ثانويا للمغرب، بل هم المغرب وهو يتنفس خارج حدوده، وأمهاتهم هن الحراس الحقيقيون لهذا الامتداد. فماذا قدمنا لهن؟ أين مراكزنا الثقافية التي تخفف عنهن عبء التربية وحدهن؟ أين التوشيح، وأين الاعتراف، وأين السياسات التي تفهم أن الأم ليست شأنا إجتماعيا بل قضية وطنية؟
إن المؤسسات- مهما عظم دورها- تبقى إدارية في جوهرها، أما الأسرة فهي الخلية الأولى للهوية، والأم هي رصيدها الاستراتيجي. عبر التاريخ، لم تصنع الأمم في المكاتب وحدها، بل في البيوت، على موائد الطعام، وفي الحكايات المسائية، وفي الدموع المكبوتة التي تنفق حبّا لا يعلَن. من هنا، فإن العناية بأبناء المهجر ليست خيارا، والعناية بأمهاتهم هي الاستثمار الأذكى في مستقبل الوطنية المغربية. وتحت رعاية الملك محمد السادس - الذي ما فتئ يوصي خيرا بأبناء المهجر ويؤكد على مكانتهم في قلب الوطن - تصبح المسؤولية جماعية: أن نسمع، وأن ننصت، ثم أن نطبّق.
فالمغرب لا يمتد فقط بحدوده الجغرافية، بل بقلوب أبنائه حيثما كانوا، ولا يحيا فقط بانتصارات منتخبه، بل بأمهات ربّين الانتصار قبل أن يسجّل هدفه الأول.
فدعم الأمهات هو دعم للوطن، وتكريمهن هو تحصين للهوية، والإنصات إليهن هو إستثمار في مغرب لا يضيع أبناءه مهما إبتعدوا.
الانتصار الحقيقي ليس هدفا في الدقيقة التسعين...بل أن يولد طفل في باريس أو بروكسيل أو أمستردام، ويشعرحين يسمع اسم المغرب أن قلبه يعرف الطريق. وهذا…لا تصنعه الفيفا، ولا تصنعه الملاعب، بل تصنعه أمّ مغربية، صامتة، عظيمة، وعنيدة في حب الوطن. فلتُرفع القبعات لهن، ولتكتب أسماؤهن في ذاكرة الوطن، لأن الأم… كانت، وستظل، الركن الذي لا يسقط، وأصل الحكاية، وسر الاستمرار.