جلس إدريس على كرسيٍّ عالٍ أمام منصة البار،
جلسة من يعرف المكان كما تُعرف المدن الأولى: نصفها حنين، ونصفها ارتياب. ألفةٌ تشبه الجروح القديمة،
لا تؤلم… لكنها لا تبرأ.
أمامه كان الكرسي الحديدي الفارغ،
بمقعده الجلدي الأحمر، ينتظر أحدًا لا يأتي، باردًا كالأشياء التي طال بها الصبر, حتى نسيت حرارة الأجساد.
كرسيٌّ لا يتكلم، لكنه يعرف أكثر مما ينبغي، ويخزّن من الأسرار ما يكفي لفضح أعمار كاملة.
على حافته وضع كبوطً رماديً،
وفوقه شال أحمر،
كأنما يغطّي غيابًا،
أو يستر ذكرى تخجل من العراء.
لم يكن ذلك الهندام مجرد قماش،
كان خلاصة سِفرٍ طويل،
غبار طرق، ومواعيد لم تكتمل،
وأقدام عبرت الحياة على عجل.
سأل إدريس نفسه،
بسؤال خرج من صدره دون استئذان:
كم رجلٍ جلس هنا؟
وكم واحدًا نهض وترك روحه معلّقة على هذا الكرسي؟
مرّوا واحدًا واحدًا، حتى حين بدوا مجتمعين، كان كلٌّ منهم وحيدًا بطريقته.
اجتماعهم كان ظلًا عابرًا، والمكان امتحانًا بلا أجوبة. أما الكؤوس،
فلم تكن أوعية خمر، بل ساعات رملية تقيس ما تبقّى من العمر
لا ما مضى.
منهم من انسحب بهدوء، كما تنطفئ شمعة حين يملّ الضوء من نفسه.
ومنهم من ظلّ يقارع الكأس، لا شجاعةً، بل لأن الرجوع كان أشدّ وجعًا من الاستمرار.
كم رجلٍ رحل وترك مقعده للفراغ.
والفراغ، حين يحضر، يجلس في أدبٍ غريب، مستقيم الظهر، واثقًا من بقائه، لا يطلب، ولا يعد.
مرّت الوجوه في ذهن إدريس، وجوه يعرفها الكرسي أكثر مما يعرفها الناس.
توقّف عند الرسّام. كان يأتي بثياب متواضعة وقلبٍ أكثر فخامة من لوحاته. يبيع لوحة مقابل زجاجة نبيذ، بلا فصال، بلا ندم.
كان يقول إن اللوحات خُلقت لتضيع، كما خُلقت الزجاجات لتُفرغ.
رحل إلى الدار الأخرى، وترك ألوانه يتيمة، تتسوّل يدًا تعيد إليها الحياة.
ثم جاء القاص. ذاك الذي كان روّاد النادي يتكفّلون له بالكأس كي يحكي، لا ليشرب فقط. يجلس، يحتسي، ثم يفتح باب الحكاية،
فتدخل الأرواح قبل الكلمات. ضحك كثيرًا، وعاش طويلًا، ثم مضى،
وبقيت قصصه حبرًا جافًا ينتظر قارئًا رحيمًا يوقظه.
حضرت صورة الرجل المكلف بالحسابات في الإذاعة الوطنية.
كان يمسك “الكاش” ويسلّمه لفنانين
صاروا لاحقًا نجوماً.
يعرف الأرقام كما يعرف الوجوه،
ويفرّق جيدًا بين الحساب والوفاء.
حين رحل، لم يأخذ معه شيئًا، سوى يدٍ نظيفة وسيرة لا تصدأ.
وفي الأسفل، كان صوت عبد الهادي يملأ القاعة بلحن قطار الحياة.
ذلك القطار الذي يمرّ بالمحطات
ولا يلتفت لمن تأخر، ولا يعتذر لمن لم يصعد.
وأخيرًا، توقّف إدريس عند صورة الأستاذ الجامعي، بشعره الأبيض ولحيته الحكيمة. كان صوته يشبه كتابًا قُرئ بهدوء.
جلطة واحدة أقعدته في البيت،
وأخرجته من المشهد دون أن تطرده من الذاكرة. لم يمت، لكنه انسحب بهدوء، ويطلّ أحيانًا كطيفٍ يطمئن القلب.
تنفّس إدريس طويلًا.
الكرسي الفارغ أمامه كان يعرف كل الأسماء، ويفضّل الصمت.
طلب جرعة أخرى، شربها على مهل.
فالأشياء المهمّة، كما كان يؤمن، لا تُؤخذ دفعة واحدة.
ابتسم، وانتشى، وسعد بهذه اللحظات الهاربة من قبضة الزمن
مع أصدقائه: محمد، ومحمد،
و أنور، و حسن، و هشام،و مصطفى… أسماء تشبه أعمدة خيمة
تعرف أنها مؤقتة لكنها تحمي من الريح.
وفجأة، انفجر المكان.
هدف للفريق الوطني.
تصفيق، عناق، وطنية عابرة
اسمها كرة مملوءة بالهواء وبالمعاني
عاد إدريس ينظر إلى الكبّوط،
إلى الشال الأحمر،
ثم إلى الكرسي.
رفع الكأس.
شرب.
الكرسي بقي.
الهندام بقي.
والشال الأحمر ظلّ دافئًا.
أما الرجال…
فقد مرّوا من هنا.