منير الطاهري: فيضانات آسفي تفتح جروح انهيار الحكامة الترابية في مدينة منسية

منير الطاهري: فيضانات آسفي تفتح جروح انهيار الحكامة الترابية في مدينة منسية منير الطاهري
لم تكن الفيضانات الأخيرة التي اجتاحت مدينة آسفي مجرد واقعة طبيعية عابرة، لكنها تحولت إلى وثيقة اتهام صامتة ضد بنية ترابية مأزومة، ونسق حكامة محلية قائم على الفساد البنيوي، وسوء التخطيط، واحتقار المطلبية الاجتماعية.
 
لقد حولت الفيضانات الطبيعة نفسها إلى شاهد اتهام، فلم تعد الأمطار مجرد ظاهرة مناخية، بقدر ما أصبحت آلية فضح كشفت هشاشة العمران، وتهميش الماكينة الإنتاجية الشعبية في الأحياء التاريخية للمدينة، وغياب أي تصور استباقي لتدبير المخاطر.
 
لقد وجدنا أنفسنا فجأة أمام أحياء غرقت بالكامل، وطرق حديثة التهيئة انهارت في ظرف ساعات، ومشاريع شُيِّدت في مجاري السيول بعلم أو بتواطؤ من السلطة المحلية، ما جعل من الكارثة أكثر من فيضان، إذ أصبحت فضيحة كشفت عن حصيلة تراكم تاريخي لمسلسل من القرارات الفاسدة؛ حصيلة فيضانات لا أخلاقية أخرى تحاصر الساكنة المحلية بسبب استشراء الفساد، وسقوط المدينة في شراك تواطؤات محلية سمحت بالبناء العشوائي وضربت بعرض الحائط تصاميم التهيئة وقوانين التعمير، مقابل مصالح انتخابية وريعية ضيقة.
 
هشاشة البنيات التحتية هي الوجه الأكثر وضوحًا لهذا الفساد البنيوي. فآسفي لم تكن مدينة منسية من حيث الميزانيات، لأنها استفادت من برامج تأهيل حضري ورُصدت لها اعتمادات مالية مهمة، لنتفاجأ جميعًا بأننا أمام مدينة منسية بواقع طرقي هش وشبكات صرف مختنقة على الدوام بفعل غياب أعمال الصيانة الدورية والترقبية، وكذلك بسبب غياب دراسات استباقية لمخاطر المجرى المائي المعروف بـ"وادي الشعبة" على مركز الأنشطة التجارية بالمدينة، والقلب النابض للأنشطة السياحية (سوق الذهب والفخار وبازار المدينة)، مقابل إعطاء الأولوية لأشغال أخرى ليست ذات تأثير مباشر على حياة المدينة وتاريخها.
 
كشفت الفيضانات أننا أمام استثمار عمومي يتحول إلى تجارة في الصفقات العمومية، ويُقدِّم منطق توزيع الكعكات والمصالح وعمولات الصفقات لفائدة هيئات محلية فاسدة، على حساب معايير الجودة والسلامة وصيانة البنيات التحتية الأساسية. إنها صفقات عمومية تُقصي أولويات المطلبية الاجتماعية الحقيقية لصالح منطق الإنجاز الورقي والتدشين الاستعراضي، وتستبعد أي تدبير استباقي للكوارث أو أولوية للصيانة الدورية لمجاري الصرف الصحي وتنمية الفضاءات العمومية وضمان سلامتها.
 
في قلب هذه الأعطاب برز ضعف مقلق في منظومة إدارة الطوارئ والإنقاذ، إلى حد يمكن القول معه إن هذه المنظومة نفسها تحتاج إلى من يُنقذها من العبث والفوضى. فقد اتسم التدخل بالبطء والارتجال، وعدم توفر برامج لدى سلطات الإنقاذ، فضلًا عن غياب التنسيق والارتباك الواضح في القرار، مع انعدام التواصل مع الساكنة، حيث تُرك المواطنون يواجهون السيول بمجهوداتهم الذاتية، في حين بدت السلطة المحلية غائبة أو مشلولة، وكأن الغياب الأخلاقي متجذر في تدبير الشأن العام المحلي. 
 
ويتكامل هذا الفشل الميداني مع فساد بنيوي يتعايش مع الكوارث ويتغذى منها، ويجد في الإعلام الرسمي حليفًا موضوعيًا له. فبدل مساءلة المسؤولين، جرى تسويق خطاب خارج السياق يتحدث عن "أمطار غير مسبوقة" و"ظروف استثنائية" في محاولة لتبييض الفشل وتحويله إلى قضاء وقدر، وهي صورة كارثية أخرى لإعلام عمومي يتحول من أداة إخبار ومساءلة إلى جهاز تبرير وتضليل يشتغل لحماية السلطة لا لخدمة الحقيقة والخبر.
 لقد أصبح الإعلام الرسمي نفسه وجهًا آخر من أوجه الكارثة، لأنه يطمس المسؤوليات ويفرغ الحدث من حمولته وخلفياته السياسية.
 
إن ما وقع في آسفي مثال مكثف لما يحدث في كثير من المدن، غير أن آسفي قد تعطي صورة أكثر بشاعة لأنها مدينة تجمع بين الفقر البنيوي وتراجع القطاعات الإنتاجية وارتفاع الهشاشة الاجتماعية وضعف التمثيلية السياسية القادرة على الدفاع عن حق الساكنة في مدينة آمنة.
 
فالفيضانات عجّلت بظهور الأزمة إلى السطح، وفضحت حدود نموذج تنموي محلي قائم على التدبير اليومي دون رؤية، وعلى توزيع الريع بدل بناء المناعة الترابية.
 
النتيجة أن الفيضانات لم تُغرق الشوارع والتراث التاريخي للمدينة فقط، وإنما أغرقت أيضًا الخطاب الرسمي وكشفت زيفه، وهو يحاول التربص بالانتخابات القادمة لتأبيد الفساد والنهب والتهميش.إنقاذ آسفي من حمولات غير مسبوقة من تدني الأخلاق السياسية لا يمكن أن يتم عبر لجان ظرفية أو بلاغات مطمئنة، وإنما يجب أن يمر إلى مرحلة أكثر مكاشفة، بتفكيك منظومة الفساد البنيوي، وإعادة الاعتبار للتخطيط العلمي للعيش الحضري، والتأسيس لسلوك مدني حقيقي، والارتقاء بالمستوى الثقافي والتعليمي للساكنة، والأهم: ربط المسؤولية بالمحاسبة واسترجاع دور الإعلام كسلطة رقابية لا كجهاز تلميع.إلى أن يتحقق ذلك، ستظل قطرات المطر في المغرب — ورغم طول انتظارها — قطراتٍ تعري الفشل القديم في السياسات العمومية، ورسالةً قاسيةً مفادها أن الدولة التي لا تستبق الكوارث، إنما تُحصِّن كوارث أخرى ذاتية وتنظيمية وسياسية.