عبد السلام بنعبد العالي: في أن الفلسفة فن السطوح لا فن الأعماق

عبد السلام بنعبد العالي: في أن الفلسفة فن السطوح لا فن الأعماق عبد السلام بنعبد العالي

فهم ما نحياه كل يوم

"جميل إذن أن نسمع اليوم هذا الخبر السار: إن المعنى ليس قط مبدأ ولا أصلا، وإنما هو منتج ليس علينا اكتشافه واستعادته وترميمه وإعادة استخدامه، وإنما ينبغي توليده بفعل آليات جديدة. فهو لا ينتمي إلى الأعالي، كما لا يغرق في الأعماق، وإنما هو مفعول سطوح، وهو لا ينفصل عن السطح مثلما أنه لا ينفصل عن بعده الخاص" – جيل دولوز

في مستهل حياته الفكرية، وإعلانا لانفصاله عن الكيفية التي كانت تمارس بها الفلسفة، كتب ميشال فوكو: "لقد ولى العهد المجيد للفلسفة المعاصرة، عهد سارتر وميرلو پونتي، حين كان يطلب من النص الفلسفي، من النص النظري، أن يجيبك ما الحياة، وما الموت؟ ما الحرية؟ وماذا ينبغي القيام به في الحياة السياسية؟ وكيف ينبغي أن نتصرف إزاء الآخر؟ يظهر الآن أن هذا النوع من الفلسفة لم يعد يجري به العمل، وأن الفلسفة، إن لم تكن قد تبخرت، فهي قد تشتتت وتبعثرت".

وفي محاضرة ألقاها في اليابان سنة 1978، قال، تحديدا لدور الفلسفة كما يراه: "عرفنا، منذ زمن بعيد، أن دور الفلسفة لا يمثل في اكتشاف ما هو خفي، بل أن نجعل مرئيا ما هو مرئي، أي أن نعمل على إظهار ما هو شديد القرب، ما هو جد مباشر، ما هو مرتبط ارتباطا وثيقا بنا إلى حد أننا لا ندركه". يقلب فوكو المفهوم التقليدي للفلسفة رأسا على عقب. إنها تشتغل على "ما هو شديد القرب"، وليس على ما هو بعيد. بدل أن ينظر إلى الفلسفة كرحلة نحو ما هو "خفي" أو "ما ورائي"، ستغدو سعيا لإبراز ما هو شديد الظهور الى درجة أنه يغيب عن وعينا.

ما هو هذا الأقرب إلينا؟ سيرد صاحب "المراقبة والعقاب": اللغة، الجسد، السلطة، الجنس، السجون، المدارس، الطب... هذه هي انشغالات فوكو. إنها "الأشياء" التي نحياها كل يوم دون أن نفكر فيها. فالفيلسوف لا يخترع حقائق، بل يضيء ما هو مطفأ بالنظر، يوقظ ما نام داخل العادة. لا يسأل صاحب "إرادة المعرفة" ما هي الحقيقة؟ وإنما، كيف تنتج؟ ومن له الحق في النطق بها؟ بأي أدوات ظهرت؟ من خص بها ومن أقصي منها؟

التفكير، في هذا المعنى، لا يتجه نحو اكتشافات "عميقة" مخفية تحت السطح، بل يبدأ من السطح، من المعيش، من اللغة اليومية، من بادئ الرأي، من التمثلات الشائعة… لكي يزعزعها. ذلك أن مهمة الفلسفة "ليست أن تحرر الحقيقة من كل نظام سلطة، بل أن تحررنا نحن من الحقيقة التي تصنع السلطة".

 

تفكيك المرئي

حين نفكك "ما هو مرئي"، نفكك أنفسنا أيضا. ذلك أن كثيرا مما أعده "أنا" (قناعاتي، لغتي، انفعالاتي، ذوقي، حتى رغبتي) هو من إنتاج خطابات وسياقات اجتماعية وسياسية وتاريخية لا ننتبه إليها. لا يرى فوكو أن الفلسفة مشروع للمعرفة فقط، بل هي مشروع خلخلة وتحول. والفكر، حين ينزع الأقنعة عن البداهات، يحدث خلخلة في الهوية، وفي الشعور بالانتماء، وفي أنماط الرغبة. الفكر إذن ليس تقنية تحليلية باردة، بل محنة فكرية ووجدانية.

يرجع دولوز أصول هذا التمجيد للسطوح، هذا الانقلاب على الأفلاطونية، إلى الرواقيين. يقول: "إن العنصر الذي سيمثل اكتشاف الرواقيين الكبير، العنصر الذي سيقدمونه ضد السابقين على سقراط وضد أفلاطون في الآن نفسه، سيكون هو استقلالية السطح، أي تحرر السطح من التعالي والعمق، وتضاده لهما معا، ما سيكون اكتشافهم هو الأحداث غير الجسمية، من حيث هي معان ومفعولات لا يمكن احتواؤها في الأجسام العميقة أو في المثل المتعالية. كل ما يحصل وكل ما يقال، يحصل ويقال على السطح، من حيث إن السطوح ليست أقل حاجة للاكتشاف ولا أقل غموضا من الأعماق أو الأعالي التي هي لا-معنى، بل ربما إنها أكثر منها حاجة إلى ذلك، لأن الحدود تغيرت مكانتها، إذ لم تعد قائمة في الأعالي بين الكلي والجزئي، كما لم تعد قائمة في الأعماق بين الجواهر والأعراض".

يمكن أن نقول إن فوكو لا يعمل في تحديده للفلسفة الذي أشرنا إليه، إلا على استئناف هذا المد ضد الأفلاطونية، هذا "القلب للأفلاطونية" الذي يمثله، في نظره، في فلسفاتنا المعاصرة الثلاثي نيتشه، فرويد، ماركس. هؤلاء جميعهم ينطلقون من اتهام المباشر، وينظرون إلى السطح بعدّه العمق "الحقيقي". ما يهمهم هو عمق السطح وليس الخفاء المفترض. كأنهم يجعلون الأعماق تطفو فوق السطوح. على يدهم تم انهيار فكرة "العمق الجوهري" الذي يفترض أنه يكمن خلف السطوح، واستبدالها بفكرة أن السطح ذاته محمّل البنى، الشفرات، واللاوعي... وأن ما يبدو مباشرا هو أعقد مما نظنه، وأنه ليس أكثر بساطة وبداهة. فالمباشرة ليست كما اعتقدها الديكارتيون، وهي لا تعني البداهة.

مقابل الموقف التقليدي الذي كان يرى أن هذا السطح يغلف ما هو أهم منه، وأنه يخفي الأعماق التي لا يمكن أن تظهر إلا بإلغائه، أقام نيتشه سطحا لا عمق له، وظاهرا لا باطن له. "فإذا كان هناك ظاهر، كما يقول، فلا شيء من ورائه، إنه سطح لا يخفي شيئا سوى ذاته". لذا يتساءل في "أفول الأصنام": "ما هو الظاهر عندي؟" فيجيب: "من المؤكد أنه ليس عكس الوجود. فما عسى يمكنني أن أقول عن الوجود، مهما كان، اللهم إلا صفات ظاهره! إن الظاهر ليس عندي قناعا لا حياة فيه، الظاهر عندي هو الحياة والفعالية ذاتها، إنها الحياة التي تسخر من ذاتها كي توهمني بأن لا وجود إلا للمظاهر".

بينما يعتبر الموقف التقليدي أن السطح يخفي من ورائه الأعماق، فإن الأعماق هنا لن تعود إلا نتيجة للوهم الذي يبعثه فينا السطح الذي يمنعنا من أن ننظر إليه كسطح، لكنه ليس السطح الفارغ الشفاف، إنه سطح ثري. ذلك أن السطح دليل على فعل التستر أكثر مما هو دليل على "شيء" من ورائه. ليس السطح، والحالة هذه، غطاء يوضع "فوق" ما يستره، بل هو انثناء ما يظهر. إنه فعل الطي ذاته. على هذا النحو يغدو التستر بنية للكائن أكثر منه أعماقا تتوارى وأقوالا تكتم. إنه يشير إلى جدلية الظهور والاختفاء، وإلى لعبة الطي التي تمنعنا من أن ننظر الى الظاهر كظاهر.

 

اتهام الحقيقة

لا يبحث نيتشه عن "الحقيقة" خلف القيم، بل يتهم هذه الحقيقة ذاتها بأنها نتيجة تأويلات رسختها بنى السلطة والمرض والانحطاط. "الحقيقة" ليست شيئا نكتشفه، بل هي قناع. نيتشه أول من أعلن موت العمق: لا حقيقة مطلقة، لا جوهر، لا معنى أوليا، "لا حقائق، بل فقط تأويلات".

بينما يميز المفهوم التقليدي عن الحقيقة، السطوح عن الأعماق، فلا يرى في السطح إلا حجابا عرضيا سرعان ما ينبغي إماطته للنفاذ إلى الحقيقة في عمقها، فإن نيتشه ينشد الأعماق المسطحة، ويمارس فن السطوح والانثناءات، ذلك الفن الذي به "تتسطح" الأعماق وتتهاوى الأعالي، وتنهار البداهات وتنفضح "الحقائق"، ليبرز سمو السطوح و"عمقها"، ويفتضح الوقار الكاذب للفكر الذي يأبى أن يأخذ اللعب مأخذا جديا، وأن يشغل باله بتوافه الأمور، فلا يولي كبير اهتمام للعابر الزائل المتبدل، ويظل عالقا بالثبات والوضوح والوقار والإطلاق واليقين.

على هذا النحو سيجعل فرويد "الظاهر" (الحلم، الزلة، المزحة، التكرار) مفتاحا لـ"الباطن". فهو لم يكن يبحث عن "جوهر النفس" المخبأ، بل كان يسعى لأن يظهر أن النفس ليست واحدة، بل مقسمة، مشروخة، مشبعة بالرغبة والصراع. اللاوعي، في نظره، لا يوجد "خلف" الوعي أو ما وراءه. لقد أعاد فرويد النظر في جدلية الظهور والاختفاء، وفكك ثنائيات باطن/ظاهر، عمق/سطح. إذا كان "التحليل" علما بالأعماق، فلأن العمق ذاته لم يعد "إلا السطح وقد انثنى". العمق "سر مطلق السطحية". وربما باستطاعتنا أن نؤكد أن التحليل النفسي ليس إثباتا لعمق الحياة النفسية بقدر ما هو تأكيد أن تلك الحياة بدون أعماق، وأن عمقها يطفو على سطحها، بحيث نستطيع أن نقرأه بارزا في فلتات اللسان وزلات الأقلام، في الأحلام وتفاهات الحياة اليومية. فليس اللاوعي ميتافيزيقا نفسية، بل نظام علامات ورغبات يقرأ في السلوك واللغة.

على النحو ذاته لم يقل ماركس إن علينا أن نبحث عن "جوهر الإنسان"، بل أن نفهم كيف تنتج البنية المادية (الإنتاج، العمل، الملكية) وعينا وواقعنا. لم يكن ماركس ضد الظواهر، بل ضد الانبهار بها من دون تفكيك. ليس المهم ما يقال، بل من يقول، ولماذا، ولحساب من؟ في هذا الإطار كان تمييزه بين البنية الاجتماعية "الخفية"، والعلاقات الاجتماعية "الظاهرة".

هكذا، لم يعد الفكر كشفا لحقيقة ميتافيزيقية، بل صار تفكيكا للمنظومات التي تظهر "بديهية". ليس هناك جوهر نبحث عنه، بل خطاب نفككه. الفكر هو مساءلة لما يظهر. لم تعد الحقيقة "مخبأة"، بل هي منتجة، منتجة بالسلطة، باللغة، بالممارسة الاجتماعية. فليس الفكر النقدي اليوم، هو الذي يكشف المستور، بل هو الذي يرى الظاهر باعتباره منتجا، لا معطى أوليا. الفكر لا يبدأ من سؤال: "ما الحقيقة؟"، بل من السؤال: كيف أصبحت هذه الفكرة، هذه السلطة، هذه اللغة، حقيقة لا تناقش؟ إنه يهتم بـ"ما يرى أكثر من اللازم"، بما يبدو طبيعيا جدا الى درجة أنه يفلت من السؤال. ليس السطح قشرة تخفي شيئا أعمق، بل نسيج من الخطابات، والصور، والانفعالات، والتمثلات، وكلها تعمل معا لإنتاج ما نسميه "واقعا".

الفكر إذن هو فن القراءة الأفقية العميقة. إنه يعي أن اللغة ليست مرآة للعالم، بل صانعة له. لذا فالسؤال الفلسفي الجديد لم يعد: "ما هو هذا الشيء؟"، بل: بأي خطاب عرف؟ من وضع له اسمه؟ ووفق أي شروط تم قبوله على نحو دون آخر؟ وقد سبق لنيتشه أن قال: "ما يهمنا هو أن نعرف الكيفية التي تسمى بها الأشياء، لا أن نعرف ماهيتها. فما يشتهر به شيء ما، اسمه ومظهره وقيمته وقياسه ووزنه، كل هاته الأمور التي تنضاف إلى الشيء بمحض المصادفة والخطأ، تصبح، من شدة إيماننا بها، يشجعنا على ذلك تناقلها من جيل الى آخر، تصبح بالتدريج، لحمة الشيء، ويتحول ما كان مظهرا في البداية إلى جوهر، ثم يأخذ في العمل كماهية".

تترسخ هذه اللحمة بفعل القوى التي من ورائها، تلك القوى التي تحدد المعاني، وتعطي الأسماء، فتؤول العالم وتلونه، إذ لا ينبغي أن ننسى أن اللغة ذاتها فعل سلطة، يصدر عمن بيده الهيمنة، وأن استراتيجيا التسمية استراتيجيا تسلط تجعل الواقع كتلة من الألوان والنعوت، وتجعل العالم ذاته لا يعرض علينا وجهه إلا على هيئة أقنعة تتنازع الدلالات.

عن مجلة:" المجلة "