في حواره مع جريدة "أنفاس بريس"، قدّم الأستاذ خالد الإدريسي، عضو مجلس هيئة المحامين بالرباط وعضو مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب، قراءة نقدية في قانون المسطرة الجنائية الجديد رقم 03.23 الذي دخل حيز التنفيذ في 8 دجنبر 2025.
واعتبر أن التعديلات جاءت استجابة لتحولات عميقة في الواقع القانوني والحقوقي، لكنها تواجه تحديات تطبيقية وهيكلية تتعلق بالتكوين، والموارد، وهيمنة المقاربة الأمنية. كما أبرز أن بعض المقتضيات ما تزال تقيد حقوق الدفاع، ما يجعل المغرب في منطقة وسطى بين الخطاب الحقوقي والتنزيل العملي للإصلاح.
دخلت المسطرة الجنائية يوم 8 دجنبر 2025 حيز التنفيذ بعد إدراج عدد من التعديلات عليها، في نظرك ما الداعي لكل هذه التعديلات؟
في نظري، لم تكن التعديلات التي دخلت اليوم حيّز التنفيذ مجرد ترف تشريعي، بل استجابة لضرورات عميقة أملتها ثلاثة عوامل رئيسية، أهمها هو مرور أزيد من عشرين سنة على تطبيق القانون السابق، وهذا الزمن التشريعي الطويل يعتبر كافيا لتقييم مردودية السياسة الجنائية في المغرب من حيث مدى تحقيق الردع الفعّال مع ضمان حماية الحقوق والحريات، وكشف مكامن الضعف التي أفرزها التطبيق العملي داخل المحاكم وغرف التحقيق والشرطة القضائية، وتزايد الجرائم ذات الطبيعة الجديدة مثل الجرائم الرقمية، والجرائم العابرة للحدود، والجرائم المالية المنظمة… وهو ما فرض مراجعة الآليات التقليدية التي أصبحت عاجزة عن مواكبة هذا التطور. وعلى مستوى آخر أصبح من المفروض ملاءمة التشريع الوطني مع الالتزامات الحقوقية للمغرب، الناتج عن مصادقته على اتفاقيات دولية ذات صلة بالمحاكمة العادلة، وحماية الضحايا، والوقاية من التعذيب.، وانسجاما مع إصلاحه الدستوري لسنة 2011 الذي جعل من الحقوق والحريات جوهر البناء الديموقراطي. وبالتالي، أصبح لزامًا على قانون المسطرة الجنائية أن ينسجم مع هذه المرجعيات الحقوقية، سواء من خلال تعزيز ضمانات الدفاع أو توسيع نطاق الرقابة القضائية على أعمال الضابطة القضائية، أو تكريس قرينة البراءة وقواعد الإثبات السليمة. وأخيرا كان هذا الإصلاح التشريعي ضروريا من أجل معالجة النقائص الواقعية التي كانت تُفرغ المحاكمة من عدالتها، والتي كانت تتمثل أساسا في محدودية حضور المحامي ودفاعه في المراحل الحرجة من البحث التمهيدي، وضعف مراقبة وسائل الإثبات بما قد يمسّ نزاهة الأدلة، وبطء المساطر وتعقيدها، بما يعرقل فعالية العدالة الجنائية وحق الدولة في العقاب.
لكن مع ذلك، ورغم أهمية التعديلات، يجب الاعتراف بأن إصلاح النصوص لوحده غير كافٍ. فالعدالة الجنائية ليست قوانين فقط، بل هي قبل ذلك إرادة سياسية وممارسات قضائية وثقافة حقوقية داخل جميع أجهزة العدالة. لذلك فإن نجاح هذا الإصلاح رهين بقدرتنا على تنزيله فعليًا، وتوفير الموارد البشرية واللوجستية، وضمان استقلال القرار القضائي وإشراك الدفاع كمكوّن أساسي في تحقيق العدالة. والأهم من ذلك، أن يكون الإصلاح شاملًا وغير محصور في تقنية تشريعية أو صياغة قانونية، لأن المغرب كان ولا يزال يتوفّر على نصوص متقدمة في مجالات عديدة، لكنّها كانت في كثير من الأحيان تفرغ من مضمونها بفعل ممارسات خاطئة تحول الضمانات إلى مجرد حبر على ورق، وتسقط الثقة في العدالة وفي المؤسسات. ان الإصلاح الحقيقي إذن ليس في تغيير الفصول، بل في تغيير العقول، وفي بناء منظومة جنائية تحترم القانون في جوهره لا في شكله، وتُجسّد دولة الحق عبر التطبيق العادل قبل التنصيص التقني.
ما هي التحديات المحتملة في تنزيل القانون رقم 03.23 ابتداء من 8 دجنبر 2025، وكيف يُقوى التنسيق بين القضاة والمحامين؟
رغم ما يحمله القانون رقم 03.23 من مستجدات مهمّة على مستوى تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، فإنّ تنزيله ابتداء من 8 دجنبر 2025 سيواجه لا محالة تحديات حقيقية تتجاوز النصوص إلى البنية العميقة للمنظومة الجنائية. فالقضاة والمحامون، وإن كانوا من الفاعلين المركزيين في صناعة العدالة، إلا أنهم ليسوا وحدهم. فهناك سلطة الضابطة القضائية، والخبراء، والشهود، والمؤسسات السجنية، وكلها حلقات أساسية، وأي خلل في أحدها ينعكس مباشرة على جودة التطبيق وعلى مصداقية الضمانات التي يقررها القانون.
لكن مع ذلك يبقى أحد أبرز التحديات يتمثل في استمرار هيمنة المقاربة الأمنية على تدبير المساطر الجنائية، حيث ظلّت النيابة العامة تمتلك مركزًا إجرائيًا قويًا يتيح لها رسم منحى الدعوى الجنائية بمنطق التحكم في الخطر أكثر من حماية الحقوق. فبدون تغيير حقيقي في تمثّلات الفاعلين وفي فلسفة ممارسة السلطة، قد تتحول الضمانات الجديدة إلى مجرد واجهة حقوقية لا تجد طريقًا إلى الواقع. وإضافةً إلى ذلك، يعاني الواقع من ضعف آليات التنزيل العملي، بسبب معيقات تتطلب خصاصا في التكوين المواكب للمستجدات لدى الشرطة القضائية والقضاة والمحامين، وهشاشة البنية التكنولوجية اللازمة لحماية المعطى الرقمي وضمان حجية الإثبات، ومحدودية الموارد البشرية والمادية داخل المحاكم والمؤسسات السجنية لتطبيق مقتضيات مبتكرة كالتدابير البديلة والرقابة القضائية الموسعة.
أما بخصوص العلاقة بين القضاة والمحامين، فهي ليست علاقة "تنسيق مؤسسي" كما هو معمول به في الأنظمة الأنجلوساكسونية، بل علاقة تنظّمها قواعد المسطرة وضمانات التقاضي. ومع ذلك، فإنّ تقوية هذا التنسيق يمكن أن يتحقّق عبر الاعتراف بدور الدفاع كشريك لا كمجرد طرف تابع للمسطرة، وتفعيل آليات الحوار المؤسساتي داخل الهيئات المهنية والمجالس القضائية، والتركيز على تكوينات مشتركة تعيد بناء الثقة وتوحد فهم المستجدات وتطبيقها، كما يبقى مهما إرساء أخلاقيات ترسخ التعاون وتحترم استقلال القضاء كما تحترم حقوق الدفاع.
لماذا يتم التركيز على المسطرة الجنائية في التعديلات، والحال أن عددا من القوانين ما زالت بحاجة لتعديلات؟
صحيح أن التركيز انصبّ بشكل لافت على تعديل قانون المسطرة الجنائية، لكن الواقع أن ما يجري اليوم هو موجة تعديلات تشريعية واسعة تقودها وزارة العدل وتمس أغلب القوانين المرتبطة بمنظومة العدالة، إلى درجة يمكن معها الحديث عن "إسهال تشريعي" مبني على مبدأ التغيير من أجل التغيير، أكثر مما هو إصلاح يرتكز على رؤية واضحة. والإشكال الأعمق أن هذه التعديلات غالبا ما جرى إعدادها بعيدا عن أي مقاربة تشاركية حقيقية مع الفاعلين المعنيين بها مباشرة، وفي مقدمتهم المحامون والقضاة، رغم ان آثارها تلامس مصالحهم المهنية وحقوق المتقاضين بشكل مباشر. والقاسم المشترك بين النصوص الجديدة انها جميعًا تسير في اتجاه تكريس مقاربة أمنية تحاول ضبط العدالة وتوجيه بوصلتها أكثر مما تسعى إلى توسيع فضاء الحقوق والحريات. ويفاقم هذا الوضع ضعف الدور الرقابي للمؤسسة التشريعية، إذ يتم تمرير النصوص في فترات قياسية بفضل أغلبية حكومية مريحة، ومن دون نقاش سياسي وقانوني عميق يُنضج الإصلاح ويصحح اختلالاته. بل إن الإحالة على المحكمة الدستورية أضحت تمارس بانتقائية واضحة، فمشروع قانون المسطرة المدنية مثلاً أُحيل للمراقبة الدستورية، بينما قوانين أخرى لا تقل حساسية مثل قانون المسطرة الجنائية مرت رغم ما تحمله من مقتضيات تمس الضمانات الدستورية، وهو ما يعكس أن المشكل ليس فقط في قانون معين، بل في طريقة التفكير في الإصلاح التشريعي برمته، حيث تستغل النصوص لإعادة هندسة منظومة العدالة وفق منطق السلطة بدل منطق الحقوق.
هل بهذه التعديلات يمكن القول أن حقوق المتهم والحق في الدفاع توافق ما تعرفه الدول المتقدمة حقوقيا؟
صحيح أن المغرب أعلن انخراطه في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان عبر المصادقة على معظم الاتفاقيات الأساسية، وأن دستور 2011 شكّل طفرة مهمة بجعل المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع في صلب البناء الدستوري للمملكة، لكن الوقوف عند عدد من المقتضيات التي جاء بها القانون رقم 03.23 يكشف عن فجوة قائمة بين الشعار الحقوقي والممارسة التشريعية. فعلى سبيل المثال، لا تزال بعض الضمانات الجوهرية لحقوق المتهم تمارس بمنطق تجزيئي أو مقيد، فالحق في الاتصال بالمحامي فور وضع الشخص تحت الحراسة النظرية، ذلك أن المادة 66 بصيغتها الجديدة، رغم تحسينها الجزئي، ما تزال تمنح إمكانية تأخير هذا الاتصال وتقييده بموافقة النيابة العامة، في حين أن المعايير الدولية والفقرة 3 من الفصل 23 من الدستور تشترط الاستفادة الفورية من مساعدة المحامي دون أي تأخير أو قيود. كما أنه مازال هناك تقييد للحق في الاطلاع على الملف أثناء البحث والتحقيق، بدليل أن المادة 139 تمنح لقاضي التحقيق سلطة تقديرية واسعة في منع المحامي من الحصول على نسخ الوثائق بدعوى "مصلحة التحقيق". وهو ما يشكك في فعالية الحق الدستوري في الدفاع عملاً بالفصل 120 الذي ينص على أن المحاكمة العادلة تبدأ منذ توجيه الاتهام، لا عند الإحالة على المحكمة. وأخيرا يمكن القول على أن التراجع عن إشراك المجتمع المدني في حماية المال العام من خلال التقييد الوارد على المادة 7 فيما يخص انتصاب الجمعيات كطرف مدني، يشكّل نكسة حقوقية تمسّ آلية رقابة المجتمع على الفساد والجريمة المالية، وتناقض التوجه الدستوري نحو إشراك المواطن والمجتمع المدني في تدبير الشأن العام.
وخلاصة القول انه رغم وجود مكتسبات تحسب للقانون الجديد، فإن عددا من المقتضيات ما تزال تنظر إلى حقوق الدفاع كامتيازٍ قابل للتضييق وليس كحق أصيل غير قابل للمساس، وهو ما يضع المغرب في منطقة وسطى.