تُحدث الانتخابات التشريعية لسنة 2026 رجّة غير مسبوقة في المشهد السياسي المغربي.
فلأول مرة، يُسمح للمواطن بالترشح بصفة فردية خالصة، دون الانتماء إلى أي حزب سياسي.
هذه الصيغة الجديدة تفتح باباً كان موصداً لعقود، وتعيد إلى الواجهة سؤالاً ظل معلقاً طويلاً: هل يستطيع مهني—مثلا طبيب—أن يخوض المعركة الانتخابية بمفرده، وأن يتقدم مدافعاً عن صوت جسم مهني بكامله؟
هذا مع العلم أن هنالك أطباء في البرلمان بإسم الأحزاب.
ولدينا في تاريخ البرلمان أطباء انتُخبوا باسم أحزاب سياسية مختلفة
من الناحية القانونية، الجواب واضح. لا شيء يمنع الطبيب من الترشح مستقلاً.
صحيح أن القانون الانتخابي لا يعترف رسمياً بتمثيل "الهيئات المهنية"، لكنه لا يمنع أي مرشح من تضمين برنامجه الانتخابي أولويات المهنة التي ينتمي إليها.
الدائرة الانتخابية تبقى وحدة التصويت، لكن المهنة يمكن أن تتحول إلى قوة سياسية إذا ضُمنت داخل مشروع واضح وقابل للدفاع.
إلا أن الجسم الطبي، بطبيعته، بعيد كل البعد عن أن يكون كتلة موحدة.
إنه جسم متشظٍ، موزع جغرافياً ومهنياً، تعبره مصالح متعارضة أحياناً.
هناك أطباء القطاع العام وأطباء القطاع الخاص، أطباء عامون وأخصائيون، اطباء عسكريون وفي الآونة الاخبرة أطباء بأجر في القطاع الخاص.
أجيال شابة وأخرى مخضرمة،
أطباء المدن وأطباء الضاحية والبادية… لكل فئة واقع مختلف، لكن الهمّ المشترك واحد: انهيار الطب الحر في العيادات الصغيرة، الاعتداءات المتكررة، تدهور منظومة الصحة العمومية، غموض القرارات التنظيمية، توتر الأوراش الكبرى مثل الجهوية الصحية، وتزايد الضغط المجتمعي على الطبيب.
هذه التناقضات تجعل فكرة "ممثل واحد" للمهنة داخل البرلمان فكرة جذابة… ومعقدة في الوقت نفسه.
المرشح المثالي يحتاج إلى خصال نادرة: معرفة دقيقة بالميدان، كفاءة مهنية لا يُجادل فيها، أخلاق راسخة، قدرة على توحيد الفئات المختلفة، فهم عميق للمنظومة القانونية والمؤسساتية، وصبر سياسي من العيار الثقيل.
ثقة الأطباء لا تُكتسب بالخطابات، بل بالسجل المهني، وبالالتزام الحقيقي والدائم بقضايا المهنة.
طرحُ فكرة ترشح طبيب يستوجب منهجية دقيقة.
الخطوة الأولى هي إطلاق مشاورات واسعة داخل المهنة لمعرفة ما يريده الأطباء فعلاً.
تليها صياغة برنامج سياسي متماسك، يتجاوز الشعارات ويترجم هموم الميدان إلى مقترحات تشريعية ملموسة: حماية الطبيب أثناء أداء مهامه، إصلاح شروط العمل في المستشفيات العمومية، تأطير التطبّب عن بُعد، إنقاذ الطب القروي، تحديث الحكامة الصحية، ضمان تمويل مستدام للقطاع، وتوسيع دور المهنيين في صياغة السياسات الصحية.
أما الحملة الانتخابية لطبيب مستقل، فلن تعتمد على الدعاية الشعبوية ولا على ماكينة حزبية.
تعتمد على رأس مال أخلاقي قبل كل شيء: طبيب يتحدث بلسان التجربة، بلسان معاناة الميدان، بلسان الإرهاق والوحدة داخل العيادة، وبلسان حيرة الأطباء الشباب أمام واقع مهني يزداد قسوة.
إنها ستكون حملة مواطنية أكثر مما هي مهنية، ورهانها جماعي قبل أن يكون شخصياً.
في مغرب يعيش تحولاً سياسياً وصحياً عميقاً، لم تعد فكرة طبيب داخل البرلمان يمثل المهنة حلماً طوباوياً.
إنها فكرة مشروعة… وربما ضرورية.
لكن السؤال يبقى: هل يستطيع الجسم الطبي—بكل اختلافاته—أن يلتف حول شخصية واحدة؟
وهل سيظهر ذاك الطبيب الذي يمتلك الشجاعة والرؤية وطول النفس لحمل هذا المشروع على كتفيه؟
إن تحقق هذا السيناريو، سيشكل سابقة تاريخية: لأول مرة، قد تتكلم مهنة الطب بصوت واحد داخل المؤسسة التي تُصاغ فيها القوانين وتُحدد فيها السياسات التي سترسم مستقبل الصحة في المغرب.
الدكتور أنور الشرقاوي
خبير في التواصل الطبي والإعلام الصحي