محمد براو مع صدور النسخة الجديدة من المؤشر الدولي للنزاهة العمومية (IPI) لعام 2025، برزت مجموعة من الملاحظات المهمة التي تستدعي تحليلاً عميقاً لوضع المغرب في مسار مكافحة الفساد، وللتحولات البنيوية التي تؤثر على منظومة النزاهة والشفافية داخله. فالمؤشر، الذي يقيس قدرات الدول على الحد من الفساد عبر عناصر أساسية مثل استقلالية القضاء، حرية الصحافة، الحكامة الرقمية، وشفافية المالية العمومية، يقدم صورة مركبة تكشف عن فجوات بين الإطار القانوني والمؤسساتي للبلاد وبين واقع التطبيق الفعلي وهو ما سبق أن سجلناه في العديد من دراساتنا وتدخلاتنا الإعلامية.
أولاً: موقع المغرب في المؤشر… تقدّم مؤسساتي وتعثّر بنيوي
يعكس موقع المغرب (الرتبة 66 من 119) في هذا المؤشر – الذي ظل دون المعدل العالمي – استمرار التحديات العميقة في البنية الحاكمة لمكافحة الفساد. فرغم الجهود الرسمية لتعزيز الترسانة القانونية، وتطوير أدوات الرقمنة وتبسيط المساطر، فإن هذا التقدم لم يُترجَم إلى تحسن جوهري في المؤشرات المتعلقة بالرقابة والمساءلة والتصدي.
تشير نتائج السنوات الأخيرة إلى أن المغرب حقق تقدماً نسبيًا في الحكومة الإلكترونية وإتاحة الخدمات الرقمية، وهو امتداد لسياسات الدولة في تحديث الإدارة وتعزيز الولوج إلى المعلومة. غير أن هذا التطور ظل محدود الأثر، إذ إن فعاليته الحقيقية ترتبط بوجود بيئة مؤسساتية مستقلة تضمن تطبيق القانون دون انتقائية.
ثانياً: ما بين الطموح السياسي والواقع التنفيذي
أظهرت تقارير دولية حديثة أن المغرب يتوفر على إطار استراتيجي قوي في مجال النزاهة العمومية، وأن جزءاً مهما من المعايير التقنية والتشريعية التي توصي بها الهيئات مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) قد تم تبنيه. غير أن هذا الإطار يصطدم بعقبة مركزية: ضعف التنفيذ.
يتجلى هذا الضعف في ثلاثة مستويات رئيسية:
1- استقلالية القضاء: الحلقة التي لا تكتمل
يُعد القضاء حجر الزاوية في أي منظومة فعالة لمكافحة الفساد، إلا أن مؤشر النزاهة العمومية لعام 2025 يُظهر ركوداً واضحاً في هذا المجال، سواء في المغرب أو على المستوى العالمي. ففي الدول التي ترتفع فيها معدلات الفساد – ومنها المغرب – يظل القضاء غير قادر على لعب دوره كاملاً بسبب تأثيرات سياسية أو إدارية تحدّ من فعاليته، مما يجعل استراتيجيات مكافحة الفساد القائمة على المسار القضائي محدودة النتائج.
2- حرية الصحافة: تراجع يعوق الشفافية
يكشف المؤشر أن حرية الصحافة تراجعت بوضوح خلال السنوات الأخيرة، ليس فقط في الأنظمة السلطوية، بل أيضاً في سياقات تسودها أزمات اقتصادية وتصاعد تأثير شبكات التواصل الاجتماعي.
المغرب من الدول التي انعكس عليها هذا التراجع؛ وهو أمر خطير بالنظر إلى أن الإعلام المستقل يظل أقوى أداة تاريخية لكشف الفساد والحد منه. ضعف الصحافة يفرغ آليات الرقابة العمومية من مضمونها، مهما تطورت المنصات الرقمية أو تعززت الشفافية الإجرائية.
3- ثغرات في المساءلة وتدبير الشأن العام والمال العام
رغم توسيع إطار الرقمنة وتحسين شفافية بعض المعاملات، ما تزال الفرص البنيوية للفساد قائمة، خصوصاً في مجالات مثل تدبير الصفقات العمومية، وتمويل الأحزاب، وتدبير بعض المؤسسات الترابية. هذا الخلل الهيكلي يعني أن التقدم التقني لا يضمن وحده محاربة الفساد ما لم ترافقه مساءلة صارمة ومؤسسات مستقلة، شفافة وفعالة ومسؤولة.
ثالثاً: الصورة مقارنة بالسنوات السابقة
تشير المقارنات بين نتائج المغرب في السنوات الأخيرة إلى أنه:
- حقق تقدماً قانونياً ومؤسساتياً لكنه لم ينجح في تحويله إلى أثر ملموس على مستوى التحكم في الفساد.
- تراجع في مؤشرات مرتبطة بثقة المواطن في نزاهة المرفق العام.
- لم يحقق اختراقاً نوعياً في مجالات استقلال القضاء وحرية التعبير، وهما الشرطان الأساسيان لضمان نجاعة أي استراتيجية ضد الفساد.
هذه المفارقات تُبرز أن المغرب يوجد عند مفترق طرق: إما الانتقال نحو إصلاحات عميقة تُقوّي المؤسسات الرقابية فعلياً، أو الإبقاء على الوضع الحالي الذي يطغى عليه الطابع الشكلي أكثر من الفعالية العملية.
رابعاً: ماذا يعني ذلك لمستقبل مكافحة الفساد في المغرب؟
يوحي تحليل المؤشرات بأن سياسة مكافحة الفساد في المغرب تحتاج إلى تغيير منطق اشتغالها، وذلك عبر:
1- تعزيز استقلالية القضاء على مستوى التعيينات والمسار المهني والموارد.
2- حماية الصحافة وضمان حرية التعبير باعتبارهما صمام الأمان الأول ضد الفساد (تحويل الجدل الحالي حول المجلس الوطني للصحافة من تحدي إلى فرصة: راجع مقالنا في هذا الصدد).
3- تعميق الرقابة البرلمانية والمحاسبة المالية.
4- تقوية دور المجتمع المدني ومنحه أدوات فعلية للرقابة.
5- إرساء ثقافة مؤسساتية تحفّز النزاهة وتجرّم الإفلات من العقاب.
ختاما: المغرب في مرحلة حساسة تتطلب جرأة إصلاحية
تُظهر نتائج المؤشر الدولي للنزاهة العمومية لعام 2025 أن المغرب يمتلك الإمكانيات والمؤسسات والقوانين الضرورية لتحقيق قفزة نوعية في مكافحة الفساد، لكنه يعاني من اختلال في التوازن بين الإرادة السياسية والتفعيل الميداني.
إن التحدي اليوم ليس في إصدار قوانين إضافية، بل في تفعيل ما تم تبنيه فعلاً، وضمان استقلال المؤسسات الرقابية، وتمكين الإعلام والمجتمع المدني، وتعزيز الثقة بين المواطن والدولة.
فقط بتحقيق هذا التوازن ستتمكن البلاد من الارتقاء الحقيقي في مؤشرات النزاهة، وتحويل مكافحة الفساد من شعار سياسي إلى واقع ملموس في الإدارة والمجتمع.
محمد براو، الخبير الدولي في مكافحة الفساد