مناسبةُ القولِ مداخلةٌ تقدّمتُ بها ضمن فعاليات نظمها الفرع الجهوي بالعيون للنقابة الوطنية للصحافة المغربية، موسومةٌ بعنوان: "رصد لمسار التنمية بالأقاليم الجنوبية".
وقفتُ خلالها على أعطابِ المقاربات السابقة وما خلّفته من اختلالاتٍ ظلّت تتجدّد بصيغةٍ أو بأخرى حتى كادت تعصف بكل الجهود المبذولة.
وبذلك وجب القول إنّ التنمية ظلّت مصدر قلقٍ وتوتّرٍ دائمين؛ لأنّ الحديث عن التنمية هو حديثٌ عن النموذج التنموي، والحديث عن النموذج التنموي هو حديثٌ عن التنمية الشاملة التي تستوجب العمل على ضمانِ حقّ الحماية من البطالة باعتبارها تحدّيًا اجتماعيًا يضع السياسات العمومية أمام تحدّي الإدماج المرتبط بالحقّ في تأمين معيشة الإنسان والإدماج الاقتصادي والاجتماعي للساكنة.
فالتنمية تُعالج بسياساتٍ عادلةٍ، لأنّ الحلّ دائمًا يكون من الداخل، وفق منطق "دبلوماسية تحدّيات الداخل ومكاشفة الخارج".
لقد تحكّمت في المسيرة التنموية لهذه الأقاليم صعوباتٌ وتحدياتٌ كبرى على مستوى قضايا البطالة.
فمنذ نهاية التسعينيات والعشرية الأولى من الألفية الثالثة، ظلّ العنوان البارز لتلك المرحلة هو أن التنمية أضحت تتجسّد في ارتفاع وتيرة الاحتجاجات كأحد الأشكال غير التعاقدية لتقييم السياسات العمومية، أي سياسات ردّ الفعل.
وقد عرفت تلك الفترة ارتهانَ السياسات التنموية لهيمنة المنطق الأمني، مما ضاعف من أَدلجة التنمية لمحاصرة تنامي الفعل الاحتجاجي، وأعطى مفهومًا عكسيًا للتنمية، وساهم في تأجيج الصراع وخلخلة بنية العلاقة بين المواطن والدولة، وبالتالي بروز أزمةِ الثقة واتساع الهوّة بين المحتجّين وصنّاع القرار.
وربما يعود ذلك إلى اعتباراتٍ، يرتبط جزءٌ منها ـ فيما أعلم ـ بـ:تحدّياتٍ ذات طابعٍ تنموي، فعلى الرغم من الإنجازات الملموسة، هناك تحدياتٌ تواجه التنمية المستدامة والبشرية، إذ تكمن المفارقة في أنّ ما يُرصد لهذه الأقاليم من استثماراتٍ لا يتوافق مع نوع المطالب الاجتماعية.
ضرورةِ التقييم الفعلي للسياسات العمومية حتى لا تبقى الانحرافات شكلًا غيرَ تعاقديٍّ لتقويمها، وللحدّ من الفوارق الاجتماعية والمجالية.ضعفِ جاذبية مناخ الأعمال، وغموضِ المجال الجبائي، والغيابِ شبه التام للقطاع الخاص، إلى جانب تداعيات المقاربة الأمنية وبعض الإشكالات الأخرى المرتبطة بالخصوصية، ومنها:
- محدوديةُ اليد العاملة المؤهّلة في المجالات التقنية والصناعية الدقيقة على مستوى الجهة.
- إرثُ مقاربات العقدين السابقين، أي المراهنة على استيعاب الميزانية العامة لمشكل البطالة.
أما خلال العشرية الثانية من الألفية الثالثة، فقد وقفت الدولة على مفارقاتٍ عجيبة بين حجم الاستثمارات المرصودة لهذه الأقاليم وطبيعة المطالب الاجتماعية غير المُتحققة.
وذلك بناءً على معطياتٍ وفّرتها تقاريرُ رسمية، منها:
- تقرير لجنة تقصّي الحقائق التي امتدّ عملها من 27 نونبر 2010 إلى 12 يناير 2011.
- تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (2012).
- التقرير المنجز بتاريخ 10 يونيو 2021 من قِبل اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، حول التنمية بالأقاليم الجنوبية.
وعلى ضوء هذه المعطيات، تمّ السعي الحثيث إلى تخليص السياسات العمومية من هيمنة المنطق الأمني، وبلورة ديناميةٍ تنمويةٍ جديدةٍ تقوم على متطلبات الاستدامة، والديمقراطية التشاركية، والتماسك الاجتماعي، على أن تكون موجّهةً نحو خلق الثروة ومناصب الشغل.غير أنّه، وبعد مرور سنواتٍ من تنزيل عقود البرامج المهيكلة الكبرى، جاء تقرير اللجنة الخاصة بإعداد النموذج التنموي بالأقاليم الجنوبية (2021) ليقف من جديد شاهدًا على استمرار الإكراهات، متضمنًا تشخيصًا لأعطاب النموذج الحالي ومقترحاتٍ لاعتماد نموذجٍ جديدٍ لتحقيق إقلاعٍ تنمويٍّ واقتصاديٍّ في أفق سنة 2035.
مما يتطلّب توجيه الاهتمام نحو:
القطاعات الإنتاجية: كالفلاحة، والثروة الحيوانية، والصيد البحري، وتثمين الفوسفاط، والصناعة التقليدية، والسياحة.
القطاعات الاجتماعية: ولاسيما التعليم والصحة وأثرهما الإيجابي في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ويظلّ الوضع بحاجةٍ إلى توجيهٍ عاجلٍ نحو تنميةٍ فعليةٍ حقيقيةٍ، أولويتها ومحورها الإنسان قبل العمران.