في مجتمعنا الصحراوي، لا تُقاس المآسي دائمًا بمقدار الدموع، بل تُقاس بحجم الصمت الذي يحمله كل فرد فوق كتفيه.
خلف وجهي، نعم وجهي، ووجه أبناء العم حكاية لا يعلم قسوتها إلا من عاشها.
هذه القصص ليست مجرد تفاصيل شخصية، بل هي مرآة أزمة اجتماعية عميقة صامتة ظلت تُهمل لسنوات طويلة في عقولنا جميعًا نحن أهل وادي الذهب.
منها مختطف بسيط.
ابن العم الأكبر عاد إلى الوطن بعد ثلاثين سنة من الضياع، عاد تائهاً كما غادر… لكنه عاد بقلبٍ متشبث بأرض تيرس التي وُلد فيها تحت علم المستعمر الإسباني.
غير أنّ الوطن لم يفتح له باب الاندماج، ولم يجد بين أبناء عمومته دفءًا يعوّض سنوات الغياب. فاختار الصمت، وترك وادي الذهب خلفه، وذهب إلى الصحراء تيرس يتتبع أثر الإبل، لعل الرمال تحفظ ما تبقّى من سلامِه الداخلي وتوازنِه العقلي.
هنا، بين السكون والفراغ، قرّر أن يقضي بقية حياته متعبّدًا، متوكّلاً على الله، بعد أن فقد كل شيء في وطنه ومجتمعه ومجالسه… وبقي له فقط اليقين بأن العبادة في تيرس هي ملاذ القلب حين تغلق الأبواب كلها.
أبواب وادي الذهب وأبواب المجتمع.
لكن مأساة ابن العم الأصغر تكشف مفارقة أعمق... وُلد تحت العلم المغربي، ولم يذق مرارة اللجوء، لكنه ذاق ما هو أقسى، الإحساس بأن مصيره يشبه مصير أخيه المنفي قسرًا.
فقد عاش هو بدوره نوعًا آخر من التهجير… تهجير في وادي الذهب، تهجير داخل الوطن.
تهجير تفرضه الإدارات، وتعمّقه المجالس المتخمة، وتصنعه نظرة مجتمع وادي الذهب التي لا ترحم.
اختار الشاب التقي، الأنيق، الذكي، الشجاع أن يشدّ الرحال إلى الصحراء تيرس، لعلّه يجد بين الإبل وقساوة الطبيعة الصحراوية بشمسها ورياحها مستقبلًا أرحم من قسوة مجتمع وادي الذهب في الداخلة.
فقد اكتشف أنّ لدغات الرمال أهون من لدغات الإقصاء والحرمان والتهميش في جهة وادي الذهب، وأن برودة الليل تحت النجوم المندثرة في سماء تيرس… كاندثار مجتمعِنا تحت المستعمر الموريتاني والإسباني أدفأ من برودة قلوب مجتمع وادي الذهب الساقط إلى الهاوية اجتماعيًا وسياسيًا لا محالة.
أما أنا، نعم أنا… حياتي ممتلئة بالظلام الدامس… ومفعّمة بالمغامرة والدراما.
فلم يعد لي من خيار لترتيب نفسي وأوراقي المندثرة سوى التوجه نحو تيرس، في تيرس. أنا أيضًا أبحث عن هويتي الأولى، عن جذوري التي ضاعت وسط صخب وادي الذهب ومجالسه التي لا تمنحني سوى الألم والوجع. أتوجه إلى تيرس العظيمة عندما تسمح لي الفرصة، الأرض التي غَذّتني وأنا طفل، وتهب لروحي اليوم ما فقدته منذ زمن: التوازن النفسي والعقلي، السكينة، والانتماء.
هناك فقط، هناك… أشعر أني أعود إلى نفسي، وأن نفسي تعود إليّ. هنا تستعيد روحي توازنها، وكأن تيرس تقول لي:
«هنا تنتمي… وهنا تكبُر… وهنا لا يملك أحد أن يقصي ظلّك. أنت أبًا عن جدّ… من تيرس، وأصلك ما يتبدّل».
إن هذه القصص الثلاث لأفراد عائلة واحدة ليست قصص أشخاص، بل مجتمع كامل، بل قصتُنا جميعًا في الجنوب، خصوصًا أهل وادي الذهب.
إنها قصة مجتمع وادي الذهب يعيش بين إرث الماضي وضغط الحاضر، بين شروخ اجتماعية وسياسية واقتصادية تُهمل عمدًا، وبين شباب يُدفعون نحو الهروب: هروب إلى المنفى، هروب إلى الصحراء تيرس، أو هروب إلى الفيافي حين يُغلق وادي الذهب أبوابه الجميلة المطلّة على جبال التروبيك الراقدة في أعماق المحيط الأطلسي.
ولعل السؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم ليس: لماذا يهرب أهل وادي الذهب كما هربت أنا في التاسعة من العمر؟
بل: لماذا لا يجدون مكانًا للبقاء؟
إن جمال تيرس تمنحنا دائمًا ما يبخل به أهل وادي الذهب أحيانًا: الكرامة، السكينة، والصدق.
وحين تفشل المؤسسات في احتضان الشباب، تصبح رمال تيرس أحنّ من الظالم.
ابن عمي الأكبر وجَّه نظره اتجاهي وفي عينيه قراءةٌ لما سُلِب منّا: حنانُ آبائِنا، شبابُنا، وكلُّ ما ضاع منّا زمن الشتات بين الطرقات الطويلة العابرة للحدود.
قال بهدوء يحمل مرارة السنين:
«ليست كل صورة حقيقة، ولا كل حقيقة تظهر كصورة».
ثم أضاف: فنحن أحيانًا نُظهر ابتسامة، لا لشيء إلا لنُخفي خلفها ألمًا وهمومًا لا يراها أحد.
في وادي الذهب حقوق تُسلب، وامتيازات تُمنح لغير أهلِها.
تيرس… الأرض اللي تجمعنا حين ينفّرُنا وادي الذهب.
الله ينصر السلطان ويهدِ الأوطان.