خالد الادريسي: الخطايا الخمس لرئيس جمعية هيئات المحامين.. تفكيكٌ لأزمة قيادة تهدد مكتسبات المهنة

خالد الادريسي: الخطايا الخمس لرئيس جمعية هيئات المحامين.. تفكيكٌ لأزمة قيادة تهدد مكتسبات المهنة خالد الادريسي
لقد طال صمتنا احترامًا للآليات المؤسساتية، ولم نعبر عن ملاحظاتنا وانتقاداتنا إلا داخل مجلس الجمعية، إيمانا منا بأن النقاش الداخلي هو السبيل الأمثل لترشيد القرار المهني. ومع ذلك، نبهنا مرارا إلى خطورة الطريقة التي يتعامل بها رئيس الجمعية ومكتبه ـ أو بالأحرى اللجينة الضيقة التي يميل إلى الاستشارة معها ـ مع عدد من الملفات الحساسة التي تمس جوهر مهنة المحاماة، وتهدّد مكتسباتها، وتضرب استقلاليتها في الصميم. كنا قد حذرنا، منذ كانت تلك المشاريع في طور المقترحات، من أنها إن تحولت إلى قوانين ـ وهو ما وقع بالفعل ـ فإنها ستؤسس لميلاد جديد لممارسة مهنية تُحاكي السلطة أكثر مما تستقل عنها، ممارسة مطبوعة بالهشاشة والخضوع بدل الصلابة والندية.
 
ودون الخوض في ظروف بداية الولاية وما وفرته من عناصر قوة استثنائية للرئيس، وزخم نضالي، ووحدة صف غير مسبوقة، واستعداد كبير للتضحية من طرف الزميلات والزملاء… فإنه يمكن التأكيد أن أفضل ما عرف في هذه الولاية لم يتجاوز الأشهر الثلاثة الأولى. 
 
تلك الفترة التي كنا فيها قادرين على قول "لا" للدولة وللحكومة ولوزارة العدل بصوت واحد، وكانت فيها هيئات المحامين موحدة ومهابة الجانب. غير أن ما تلا تلك المرحلة، وكان يفترض أن يكون زمن جني ثمار النضال وتفعيل الاقتراحات وتحصين الموقع التفاوضي للمهنة، أتانا بخيبة أمل عميقة. إذ توالت التراجعات تلو التراجعات، التي مست أساسيات مهنتنا النبيلة، وأضرت بالمصالح المهنية للمحامين، فرديًا ومؤسساتيًا.
 
وسأعرض في هذا المقال الخطايا الخمس الكبرى التي تكشف، بما لا يدع مجالًا للشك، أن هذه المرحلة من ولاية الجمعية، التي تزامنت مع الزخم التشريعي الواسع الذي قادته الحكومة، لم ترقَ إلى مستوى انتظارات المحامين، ولا إلى ما تفرضه اللحظة التاريخية من صلابة ووضوح في الموقف. بل يمكن القول، دون مبالغة، إنها أضعف مرحلة مهنية عرفتها مهنة المحاماة منذ الاستقلال، مرحلة اتسمت بغياب المبادرة، وبتقديم المآرب الضيقة والمصالح الصغيرة على المصلحة المهنية العليا التي كان يفترض أن تكون بوصلة القرار الجماعي.
 
الخطيئة الأولى: تجاهل القانون التنظيمي للإضراب… وصمت يهدد استقلالية المهنة
شهدت الساحة المهنية خلال السنوات الأخيرة زخمًا نضاليًا غير مسبوق، اعتمد فيه المحامون على الإضراب والتوقف الجماعي عن العمل كآلية فعالة للدفاع عن مكتسباتهم في مواجهة التدابير الحكومية والتشريعات المجحفة. ورغم ذلك، مرّ مشروع القانون التنظيمي المتعلق بممارسة حق الإضراب في البرلمان دون أي موقف مهني واضح، ودون مذكرة ترافعية أو بيان، في صمت غير مفهوم من جمعية هيئات المحامين بالمغرب. هذا الصمت يشكل "الخطيئة الأولى" والأخطر في الولاية الحالية للجمعية، لأن القانون المذكور لا يهم فقط الأجراء والموظفين، بل يطال المهنيين، ومن بينهم المحامين، عبر مجموعة من المقتضيات التي تمسّ استقلالية المهنة مباشرة:
•    تقييد الجهة التي يمكنها الدعوة إلى الإضراب وحصرها في "منظمة نقابية تمثل المهنيين"، وهو مفهوم فضفاض يفتح الباب لتنازع التمثيلية داخل الجسد المهني.
•    فرض رقابة مزدوجة على الإضراب عبر إلزام المحامين بتبليغ قرار التوقف عن العمل لكل من وزارة العدل ووزارة الداخلية، رغم أن المهنة كانت دائمًا ترفض الوصاية التشريعية لوزارة العدل وحدها، فمابالك ان تنضاف وزارة الداخلية كجهة رقابية ثانية.
•    إدراج مهنة المحاماة ضمن "المرافق الحيوية"، وإجبارها على توفير "الحد الأدنى من الخدمة". وهو ما يفقد الإضراب فعاليته الكاملة ويجعل الضغط المهني بلا تأثير.
•    منح قاضي المستعجلات صلاحيات واسعة للتدخل في تحديد مشروعية الإضراب وحدوده، ما يضيف جهة رقابية ثالثة إلى رقابة الداخلية والعدل.
•    الإبقاء على إمكانية اللجوء إلى الفصل 288 من القانون الجنائي لفرض عقوبات سالبة للحرية، رغم أن المشروع التنظيمي جاء خاليًا من السجن، وهو ما يهدد حرية المحامي وحصانته.

 
ورغم خطورة هذه المقتضيات، لم تبد الجمعية أي موقف، بل إن رئيسها اعتبر – وقد سبق أن نبهته أثناء اجتماع مجلس الجمعية بمراكش لخطورة هذا التشريع ـ أن هذا القانون "لا يهم المحامين"، في تجاهل تام لكون المشروع يذكر المهن القانونية صراحة ويخضعها لأحكامه.
 
إن تفويت فرصة الترافع حول هذا القانون التنظيمي يمثل تراجعًا مؤلمًا عن واجب المواكبة التشريعية، ويدل على غياب المبادرة وترك أهم آلية نضالية للمحامين تتعرض للتقييد دون دفاع أو تحفظ. وهي بداية تنذر بأن المرحلة كاملة لم تُحسن حماية استقلالية المحاماة ولا مصالح المنتسبين إليها. وهكذا، يشكل هذا التجاهل أولى الخطايا المهنية الكبرى التي ميزت هذه الولاية، ودليلًا على أن المصلحة المهنية العليا لم تعد في صدارة الاهتمامات، وأن مرحلة كاملة من العمل المهني ضيعت لحظة تاريخية كان يمكن فيها اقتراح التعديلات وصيانة المكاسب قبل فوات الأوان.
 
الخطيئة الثانية: الرضوخ لمرسوم معهد المهن القضائية والقانونية والتنصل من معهد المحاماة
تتمثل الخطيئة الثانية في القبول الضمني والصامت بمرسوم إحداث المعهد الوطني للمهن القضائية والقانونية وكتابة الضبط، بما يمثّله من تنصل واضح من التزام الدولة بمَعهد مستقل للمحاماة، ومن ضرب لاستقلالية المهنة ورمزيتها، دون أن تبادر جمعية هيئات المحامين بالمغرب إلى أي موقف علني أو مسطرة مواجهة جدية. فمنذ قانون المحاماة لسنة 1993، حين تم النص على إحداث معهد وطني لتكوين المحامين، ثم مع القانون 28.08 الذي أكد في مادته السادسة أن شهادة الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة تُمنَح من طرف مؤسسة للتكوين تحدث وتسير وفق قانون تنظيمي، ظل هذا الالتزام حبراً على ورق. لم ترى مؤسسة التكوين الخاصة بالمحامين النور، رغم تعاقب الوزراء وتكرار الوعود، ورغم المبادرات الجدية التي قامت بها جمعية هيئات المحامين بالمغرب في ولاياتها السابقة حين قدّمت مشروعاً متكاملاً لمعهد خاص بالمحاماة.

 
وبدل الوفاء بهذا الالتزام، اختارت وزارة العدل الالتفاف عليه عبر مسودة معهد مشترك يدمج المحامين مع التوثيق، وخطة العدالة، والمفوضين القضائيين، وكتابة الضبط… في صيغة تذيب مهنة المحاماة داخل "سلة مهن" مختلفة من حيث الطبيعة والدور والرمزية. فتسمية المعهد الوطني للمهن القضائية والقانونية وكتابة الضبط ليست مجرد تفصيل شكلي، بل هي مؤشر على تراجع رمزي خطير عن الاعتراف بالمحاماة كركن أساسي في منظومة العدالة، وكفاعل مستقل لا كجزء تابع ضمن مخطط إداري كبير.
 
بل إن الأخطر من ذلك أن المرسوم المؤسس لهذا المعهد صدر وتم تفعيله بتعيين مدير من الجسم القضائي وبتركيبة يغلب عليها القضاة وموظفو كتابة الضبط، مع حضور ثانوي أو شبه صوري للمحامين، في تغييب تام لمبدأ الشراكة الفعلية مع الهيئات، ومن دون أن تعلن الجمعية رفضاً واضحاً أو حتى تحفظاً جدياً على هذا المسار. وهنا تكمن الخطيئة الثانية من خلال صدور مرسوم بهذه الخطورة مرّ دون معركة مهنية حقيقية.
 
هذا الرضوخ ليست له فقط أبعاد رمزية فقط، بل ينعكس مباشرة على:
•    استقلالية التكوين المهني للمحامين، بعد نقل مركز الثقل من ندوة التمرين ومن الهيئات إلى معهد تتحكم وزارة العدل وأجهزة أخرى في مجلسه الإداري ولجنته البيداغوجية.
•    هوية التكوين ومضمونه، مع احتمال إعادة إنتاج نفس المنطق الذي ساد في المعهد العالي للقضاء: تكوين محافظ، حذر من المحامي، لا يؤمن بدوره النقدي والحقوقي، بل يزعجه أن يكون المحامي قوياً، حراً، وجريئاً في مواجهة السلطة.
•    المكانة التاريخية لمؤسسات المهنة، وعلى رأسها ندوة التمرين التي شكلت مدرسة المحامين، والتي ستتراجع رمزيا وفعليا بعد نقل جزء كبير من اختصاصاتها إلى معهد موحد تتحكم فيه السلطة التنفيذية.
•    الاستقلال المالي للهيئات، عبر احتمال التدخل في منطق واجبات الانخراط وربطها بمنظومة التكوين المركزي، بما يضعف موارد الهيئات وقدرتها على تدبير شؤون المهنة اجتماعيًا ومهنياً.

 
إن السكوت عن هذا المرسوم، وعدم الدفاع بحزم عن معهد مستقل للمحاماة كما أقرته النصوص القانونية وكما صاغته الجمعية نفسها في مشاريع سابقة، يجعل من هذه الخطوة تنكّرا مزدوجا، فهوًمن جهة اولى تنكرا لالتزامات الدولة التي لم تنفذ معهد المحاماة المستقل، وتنكرا من الجمعية لواجبها في حماية استقلالية المهنة ورمزيتها حين قبلت عمليًا – بالصمت واللاتفاعل – أن تذاب المحاماة في معهد المهن القضائية والقانونية وكتابة الضبط. وهكذا، تصبح الخطيئة الثانية عنوانًا "للرضوخ للمرسوم" بدل فرض معهد المحاماة، وللتفريط في إحدى أهم المعارك الاستراتيجية المرتبطة بالتكوين، والاستقلالية، والرمزية في مستقبل مهنة المحاماة
 
الخطيئة الثالثة: التقصير في الدفاع عن مكانة الدفاع داخل قانون المسطرة الجنائية وترك أخطر المقتضيات تمرّ بلا مواجهة
كان من الواجب على جمعية هيئات المحامين بالمغرب ورئيسها بالخصوص، أن يدرك منذ اللحظة الأولى أن مشروع قانون المسطرة الجنائية ليس مجرد تجميع تقني لمقتضيات إجرائية، بل هو مشروع يعيد هندسة موقع الدفاع داخل المنظومة الجنائية، ويُعيد التموقع بين الضابطة القضائية والنيابة العامة والمحاماة، على نحو يضعف الدور التاريخي والحقوقي للمحامي. ومع ذلك، وفي واحدة من أكثر اللحظات التشريعية حساسية منذ عقود، اكتفت الجمعية بـمداخلات عامة في ندوات ذات طابع أكاديمي، وتصريحات فضفاضة من نوع "تعزيز حقوق الدفاع" دون تحديد مكامن الخلل، وغياب أي مذكرة ترافعية مؤسساتية موجهة للحكومة أو البرلمان، وغياب مقترحات تعديلية مضبوطة نصّاً بنص، وغياب رؤية واضحة لمواجهة التحولات التي يحملها المشروع.

 
وهنا تبرز الخطيئة الثالثة بوضوح، فهي ليست مجرد تقصير، بل هي تخل عن واجب الدفاع عن الدفاع. فمشروع قانون المسطرة الجنائية كان يستوجب تعبئة وطنية مهنية، ومرافعات تقنية دقيقة، وعملاً مؤسساتيًا منظمًا. لكن الذي حصل هو صمت طويل، ترك المشروع يمر بما يحمله من قيود على الحرية المهنية، ومن إعادة تشكيل غير متوازنة لمنظومة العدالة والنتيجة هي أنه أصبح موقع المحاماة داخل منظومة التقاضي، وبالأخص في مرحلة البحث التمهيدي، أضعف من أي وقت مضى، وهو وضع لا يليق بتاريخ المهنة ولا بتضحيات أجيالها. فهذه المرحلة، التي تشكل اليوم الخزان الحقيقي للقرارات القضائية اللاحقة، تقصى فيها المحاماة أو يراد لها أن تظل مجرد شاهد صامت، رغم أن حضور الدفاع في لحظة جمع الأدلة واستنطاق المشتبه فيهم هو جوهر الحق في المحاكمة العادلة. ومع ذلك، لم يتم خوض أي معركة مؤسساتية جادة لفرض حضور المحامي، أو لتقوية دوره، أو لحماية مكانته داخل هذه المرحلة الحساسة التي أصبحت تقود مصائر المتقاضين قبل وصولهم إلى منصة الحكم. ويزداد هذا الضعف حدة حين نلاحظ غياب الدفاع عن مبادئ حقوقية كبرى كان يفترض أن تتصدر أجندة الجمعية، وفي مقدمتها حق الجمعيات الحقوقية في تقديم الشكايات والتبليغ عن الانتهاكات طبقاً لمقتضيات الدستور والمواثيق الدولية. فهذا الحق الذي انتزعته الحركة الحقوقية عبر عقود من النضال، أصبح اليوم مهددا بالتأويل المضيق والتقييد الإجرائي، من دون أن نسمع صوتاً مهنياً قوياً يدافع عنه، أو يذكر بدور المحامي كفاعل مجتمعي قبل أن يكون مجرد ممثل قضائي.
 
الخطيئة الرابعة: مشروع قانون المسطرة المدنية، حين قامت المحكمة الدستورية مقام جمعية هيئات المحامين في الدفاع عن الدفاع
تتجلى الخطيئة الرابعة في مشهد غير مسبوق في تاريخ مهنة المحاماة، وتحل المحكمة الدستورية عملياً محل جمعية هيئات المحامين بالمغرب في الدفاع عن المبادئ والضمانات المرتبطة بالتقاضي وبدور الدفاع داخل منظومة العدالة، خاصة في سياق مسودة قانون المسطرة المدنية. فبدل أن تكون الجمعية هي الفاعل المؤسسي الأول الذي يلتقط لحظة الاحتجاج المهني القوية التي فجرها المحامون ضد مقتضيات هذا المشروع، ويحوّلها إلى قوة تفاوضية وتشريعية منظمة، ترك المجال فارغاً تقريباً، ليأتي التصحيح في مرحلة لاحقة من خارج الجسم المهني، عبر رقابة القضاء الدستوري. لقد وفرت الاحتجاجات الواسعة للمحامين ضد مسودة قانون المسطرة المدنية فرصة تاريخية نادرة للجمعية من أجل تعزيز موقعها التفاوضي مع وزارة العدل والبرلمان، والدفاع عن حزمة من المبادئ الكبرى التي يقوم عليها التقاضي، مثل مبدأ المساواة بين المتقاضين، مجانية التقاضي، الحق في الولوج إلى العدالة، الحق في التقاضي على درجتين، مبدأ الأمن القانوني، مبدأ التخصص القضائي، وحصانة الدفاع ودور المحامي في مختلف مراحل المسطرة. كان من المفروض أن تتحول تلك اللحظة إلى مذكرة ترافعية قوية، ومقترحات تعديلية دقيقة، واستثمارٍ ذكي للزخم النضالي الذي أعاد للمحاماة وزنها في الشارع وفي النقاش العمومي.

 
غير أن ما وقع هو العكس تماماً، فـالمفاوضات التي فتحت بعد هذا الحراك لم تستثمر بالشكل المطلوب، ولم تظهر إلى العلن رؤية واضحة أو وثيقة مؤسساتية جامعة تعبر عن تساؤلات المحامين وتخوفاتهم ومطالبهم بدقة. وبدا وكأن من يفترض فيه أن يكون "الممثل الأمين" للجسم المهني عاجز عن تحويل الغضب النضالي إلى مكاسب تشريعية، أو غير راغب في خوض معركة تقنية عميقة حول تفاصيل المسطرة المدنية، مكتفياً بخطاب عام وفضفاض حول "الولوج المستنير إلى العدالة" من غير ترجمة حقيقية لهذا الشعار في معركة النصوص والفصول والمواد. في هذه الهوّة التي تركها الغياب المؤسسي للجمعية، برز دور المحكمة الدستورية كآخر حصن للدفاع عن بعض المبادئ الدستورية التي مسّتها المسودة أو هددتها من قبيل مبدأ المساواة، والحق في التقاضي على درجتين، إلى بعض ضمانات الولوج إلى العدالة والأمن القانوني. وهكذا، أصبحت المحكمة الدستورية وليس جمعية هيئات المحامين هي التي تنقذ ماء الوجه في النهاية، وتمنع ذهاب نضالات المحامين سدى، عبر إقرار عدم دستورية بعض المقتضيات أو توجيه قراءتها وتأويلها في اتجاه أقل مساساً بالحقوق والحريات.
 
إن هذا الوضع مقلق على أكثر من مستوى، لأنه يعني عملياً أن الجسم المهني الذي يفترض أن يكون "ضمير العدالة" ترك فراغاً في ساحة الدفاع عن قانون المسطرة المدنية، وأن المؤسسة التي يفترض أن تتصدر النقاش التقني والسياسي حول هذا القانون، اكتفت بدور هامشي، تاركة للمحكمة الدستورية أن تتحمل وحدها عبء تصحيح مسار تشريعي كان للمحامين فيه مصلحة مباشرة وحيوية. وهكذا تصبح الخطيئة الرابعة عنواناً لمفارقة مؤلمة. حين انسحبت جمعية هيئات المحامين من قلب معركة قانون المسطرة المدنية، تقدمت المحكمة الدستورية لتقوم بالدور الذي كان يفترض أن يقوم به الدفاع، دفاعاً عن الدفاع نفسه
 
الخطيئة الخامسة: مسودة مشروع قانون مهنة المحاماة، مسودة قانون جوهري يتراجع عن المكتسبات ويضرب ثوابت المهنة
تتجلى الخطيئة الخامسة في الطريقة التي تم بها تدبير مشروع تعديل قانون مهنة المحاماة، هذا القانون الذي يُفترض أن يكون "دستور المهنة" وحارس استقلاليتها، فإذا به يتحول، في الصيغة المتداولة حاليا، إلى مشروع تراجعي يمس بجوهر المكتسبات التي راكمها المحامون عبر عقود من الترافع والنضال. فالقانون الحالي لمهنة المحاماة لم يسقط من السماء، بل هو ثمرة مسار طويل من المقترحات والمذكرات الترافعية التي تقدمت بها الهيئات وجمعية هيئات المحامين بالمغرب، وأنتجت نصا متقدما في كثير من مجالاته، خاصة على مستوى ترسيخ استقلالية المهنة، وتقوية اختصاصات الدفاع، وضمان حد أدنى من الاحتكار المهني في تمثيل الأطراف أمام القضاء. لذلك يطرح سؤال جوهري نفسه اليوم: ما الجدوى من تعديل قانون قائم جاء أصلاً استجابة لمطالب المحامين، إلا إذا كان الهدف هو التراجع عن المكتسبات لا تطويرها؟

 
فبدل أن ينطلق رئيس الجمعية ومكتبه من هذا الرصيد التراكمي الغني، تم التعامل مع الموضوع كما لو أننا نبدأ من الصفر، في تجاهل كامل للأوراق والمشاريع والمذكرات التي اشتغلت عليها مكاتب ورؤساء سابقون للجمعية، وقدمت بالفعل تصورات متقدمة وعميقة حول تطوير قانون المهنة. وهكذا تم إقصاء هذا العمل المؤسسي الجاد، وكأن المطلوب هو محو الذاكرة المهنية لا استثمارها.
 
والأخطر من ذلك أن رئيس الجمعية كان قد وعد مجالس الهيئات صراحة بإحالة مسودة مشروع قانون المهنة عليها قبل أي تفعيل تشريعي، احتراما لشرعية المجالس، واعترافا بدورها في مناقشة "قانونها الأساسي" الذي سيضبط مستقبل المهنة لعقود. غير أن هذا الوعد ما لبث أن تحول إلى نَكثٍ صريح. إذ طلب من وزير العدل، وبصيغة ملحة، الإحالة الفورية والمستعجلة للمسودة على المسطرة التشريعية، في استعمال واضح ل " القوالب" مع المؤسسات المهنية والجمعيات العامة التي كانت تنتظر النقاش الهادئ والشفاف لمشروع قانونها الأساسي بفارغ الصبر. وبعد مرور أكثر من سبعة أشهر على هذا الخطاب، وعلى أشغال المؤتمر، لم يسمع المحامون عن أي نقاش جدي داخل المجالس أو بين القواعد المهنية، بل فوجئوا باجتماع دبربليل قيل إنه انتهى إلى "توافق" حول مقتضيات تمسّ صميم المهنة وتضرب استقلاليتها في العمق. إنه اجتماع بدا وكأن كل طرف فيه سعى إلى تأمين مآربه ومصالحه الخاصة، بينما تُركت المصلحة العامة للمحامين خارج الحسابات، ولم تُطرح الثوابت المهنية من استقلالية الدفاع، وحصانته، واحتكاره لمجال الترافع إلا كأوراق قابلة للمساومة وليست خطوطاً حمراء.
 
وهكذا تتحوّل الخطيئة الخامسة إلى عنوان عريض لمرحلة كاملة، مرحلة مشروع قانون جوهري لم يبن على ما راكمته المهنة من اجتهادات ومذكرات، بل انقلب على جزء من مكتسباتها. ومرحلة قيادة مهنية فضلت المسارعة إلى بوابة المسطرة التشريعية، ولو على حساب احترام القواعد الديمقراطية الداخلية، وإشراك الهياكل والمؤسسات التي تمثّل المحامين فعلا لا ادعاء.
 
الخلاصة:
ان الخطايا الخمس التي بُسطت في هذا المقال ليست مجرد هنات عابرة في تسيير مؤسسة مهنية، بل هي مؤشرات على أزمة قيادة وتدبير في لحظة دقيقة من تاريخ مهنة المحاماة بالمغرب. لحظة كان يفترض فيها أن تكون الجمعية قلعة الدفاع الأولى عن استقلالية المهنة وحصانتها، فإذا بنا نشهد صمتا حيث يجب الكلام، وتراجعًا حيث يجب التقدم، وتفريطًا حيث ينبغي التشبث بالنصوص الضامنة لقوة الدفاع ومكانته.

 
لقد أظهرت المرحلة أن غياب الرؤية، وتوسيع هامش الارتجال، والتعاطي الضيق مع القضايا الاستراتيجية، أدى إلى إضعاف موقع المحاماة في المساطر الجنائية والمدنية، وإلى تمرير نصوص خطيرة تمس السر المهني والحق في الدفاع، بل وصل الأمر إلى حد ترك المحكمة الدستورية تقوم بالدور الذي كان يجب أن تنهض به الجمعية، دفاعا عن مبادئ دستورية جوهرية تمس المتقاضين والمحامين معا. واليوم، ونحن على أعتاب مشروع قانون جديد لمهنة المحاماة، لا نملك ترف التردد ولا رفاهية السكوت. فهذه المسودة هي الخط الفاصل الأخير بين مهنة قوية مستقلة وحصينة، وبين مهنة هشة مقيّدة تخضع لإرادة السلطة بدل أن تكون شريكا لها.
 
إنها دعوة إلى رئيس الجمعية وأعضاء مكتبه، لأن المسؤولية المهنية والأخلاقية تفرض على رئيس الجمعية، وعلى من يشتغلون بجانبه، أن يراعوا مصالح المحاماة والمنتسبين إليها، وأن يقاربوا مسودة مشروع قانون المهنة باعتبارها الوثيقة التأسيسية الأخيرة لضمان قوة واستقلالية وحصانة مهنة الدفاع، وأن يحيلوا المسودة فورا على مجالس الهيئات، احتراما للمشروعية الداخلية، وتفعيلا للديمقراطية المهنية التي لا ينبغي الالتفاف عليها.، وأن يدعوا إلى عقد مجلس جمعية عاجل لمناقشة المستجدات المهنية، وتحديد موقف موحد وواضح من مشروع قانون المهنة، بعيدا عن الاجتماعات الضيقة والتفاهمات الليلية الغامضة. فلا يمكن لقيادة مهنية أن تطلب من الدولة احترام استقلالية المهنة، وهي نفسها لا تحترم استقلالية ومشروعية مؤسساتها الداخلية.
 
وهي دعوة للمحاميات والمحامين إلى اليقظة بدل الاستكانة، لأن المحاماة لم تكن في يوم من الأيام مهنة تقوم على الصمت. قوتها في صوتها، وهيبتها في نَفَسها الجماعي، واستقلاليتها في يقظة منتسبيها. ولذلك ندعو جموع المحاميات والمحامين إلى مغادرة موقع المتفرج، ورفض ثقافة السلبية والسكوت، ورفع الصوت دفاعًا عن مستقبلهم المهني، والتحرك داخل الهيئات والجمعيات العمومية لفرض النقاش، وصناعة القرار، وتوجيه المسار قبل فوات الأوان. فلا وجود لمهنة قوية إذا كان منتسبوها صامتين، ولا يمكن لأي قيادة مهما كانت أن تصادر الإرادة الجماعية للمحامين إذا قرروا أن يقولوا كلمتهم.
 
إن مستقبل المحاماة لن يُكتب بيد واحدة، ولا في اجتماعات مغلقة، ولا عبر تفاهمات ظرفية. بل سيكتبه المحامون حين يستعيدون دورهم، وتستعيد الجمعية وظيفتها الأصلية، ألا وهي الدفاع عن الدفاع. وأظن على أنه ما زال في الوقت متّسع، إذا توافرت الإرادة، وارتفعت الأصوات، واستُعيدت البوصلة.
عاشت مهنة المحاماة حرة مستقلة.
د/ خالد الادريسي عضو مجلس هيئة المحامين بالرباط 
عضو مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب