يكشف المشهد السياسي المغربي، خلال العقد الأخير، أن الفاعل السياسي، بمختلف تشكيلاته المتعاقبة، بات مطمئنا إلى مزاعم «طهرانيته الذاتية»، إذ وجد في توجيه تهمة الفساد إلى الآخرين، وخاصة إلى الخصوم السياسيين، أداة جاهزة لتفسير كل اختلال في بنيته، وتبرير كل تعثر يعتبر برامجه أو طرق تدبيرها.
هذا السلوك، كما تشير إلى ذلك «الوقائع الفضائحية» لهذا الطرف أو ذاك، ليس وليد اليوم، بل أصبح جزءا لا يتجزأ من بنية إنتاج الخطاب السياسي ذاته، حتى إن كل ولاية حكومية تبدأ عمليا من نقطة الصفر، وتتعامل مع الماضي القريب باعتباره «لوثة ينبغي التخلص منها» أو لحظة غيرية مليئة بالأخطاء التي لا رابط لها ببرنامجها أو فلسفتها. وهكذا يُعاد صوغ الزمن السياسي بوصفه قطيعة دائمة بين مرحلتين، حيث تتحول الحكومة الجديدة إلى «ضحية» ترث عبئا من سوء التدبير هي بريئة منه، وتتحول الحكومة السابقة إلى «متهم فوق العادة» تستعاد ملفاتها كلما ظهر خلل أو احتقان أو عجز في الأداء، وكأن دفع هذا العجز هو مضمار التباري الذي يشحذ هذا الفاعل آلة دعايته، ويسخر كل طاقاته من أجل قهر الخصم وشيطنته ونزع البراءة عنه.
والواقع أن هذا السلوك ليس مفاجئا، بل هو نتاج تراكم طويل لمسلسل «فضائح» يغذي التوتر بين الفاعلين السياسيين في كل الأوقات؛ علما أن كل التوتر السياسي ينبغي أن يقوم، في الأصل، على قاعدة الإصلاح، وتقويم الاعوجاج، والإبداع في إيجاد الحلول، والتعامل مع القضايا بمنطق المسؤولية والالتزام، خاصة أن الفضائح التي تنفجر في بيت هذه الحكومة أو تلك، أو هذا الحزب أو ذاك، لا تجد رغم ثقل وزنها طريقها إلى القضاء في أغلب الحالات، بل يتم التستر عليها وإقبارها تدريجيا «حتى تنسى وكأنها لم تكن»، وذلك عبر المراهنة على النسيان وانتهاج سياسة «كم حاجة قضيناها بتركها»، حتى أصبح هذا النهج «عادة حكومية»، والأمثلة على ذلك كثيرة، من قبيل ملف «شكولاتة الكروج» الذي أضحى مادة للتهكم السياسي، ثم الاتهامات المتبادلة بين وزراء حول التأثير على المسار التشريعي خدمة للوبيات التبغ، وصولا إلى سلسلة من الملفات الأخلاقية والسياسية التي حولت التوتر إلى نمط اشتغال. إذ أن كل فريق يستبسل في محاولة القضاء على الفريق الآخر ليفوز بالطهرانية المفترى عليها، ويعزز رصيده الانتخابي للفوز بالكراسي الحكومية.
ومع توالي السنوات، لم تتغير بنية هذا التوتر، بل تعمقت، حيث تحوّل اتهام الآخر «ولو بدون حجج ودلائل» من ظاهرة تحتاج إلى معالجة قانونية وأخلاقية وسوسيولوجية إلى أداة سياسية وظيفية تُستعمل لتصفية الحسابات، وصياغة صورة أحزاب ضد أحزاب، وخلق رأسمال انتخابي يقوم على الظهور في صورة «النقي» مقابل «الفاسد»، علما أن نشيد فقدان الثقة في السياسة يعزف على إيقاع «كل أولاد عبد الواحد واحد»، ولا فرق بين يميني ويساري، ولا بين علماني وأصولي!
بيد أن الحقيقة الأعمق تكمن في أن هذا «التوظيف البلاغي للفساد»، بكل درجاته واستعمالاته، لا يمكن فصله عن الخلل البنيوي في آليات التنخيب داخل الأحزاب والنقابات والإدارات. فالنخب لا تولد في فضاءات مفتوحة للتنافس السياسي، بل تتشكل داخل شبكات مغلقة تحكمها الولاءات والتوازنات والتفاهمات غير المعلنة. وفي ظل هذا النسق، يصبح الفاعل السياسي ابن بنية تفضيلية لا تكافئ الكفاءة ولا الخبرة ولا الاستقلالية، بل تكافئ القدرة على الانضمام إلى دوائر النفوذ، والقدرة على الانتفاع من نظام الامتيازات التي يتيحه الولاء. لذلك، حين يصل هذا الفاعل إلى تدبير الشأن العام، لا يجد أمامه سوى خطاب الاتهام جاهزا ومستساغا، لأنه يعفيه من مواجهة أعطاب المنظومة التي أنتجته أصلا وجاءت به إلى الكرسي الوزاري.
وإذا تتبعنا المسار الزمني لتطور الاتهامات الحكومية بالفساد سنلاحظ أن كل حكومة تقريبًا اعتبرت نفسها ضحية لسياسات سابقتها. فحكومة 2012 أشارت إلى إرث ثقيل من العجز والاختلالات المالية، وحكومة 2016 استعادت ملفات الحكومات التي قبلها لتبرير تأخر الإصلاحات، وحكومة 2021 أعادت بدورها نفس الأسطوانة، متحدثة عن إرث «عشرين سنة» من سوء التدبير، وكأن الحزب «الأغلبي» لم يكن مشاركا في الحكومة السابقة، حتى بدا أن الزمن السياسي في المغرب يتحرك وفق هندسة واحدة: كل حكومة تبدأ عهدتها بـ «جرد سلبيات» من سبقها، وتغتنم فرص الأزمات لإعادة فتح ملفات قديمة كانت مجمدة أو لم تُحاسب. وفي كل مرة يظهر ملف جديد، من صفقة عمومية غامضة إلى تضارب مصالح أو اختلال مالي في مؤسسة معينة، يتم استخدام الحدث كذخيرة في الصراع السياسي بدل أن يكون مناسبة لتعزيز آليات الرقابة والمساءلة. بل يتعمق الإشكال حين تتحول الاتهامات المتبادلة إلى وسيلة لإخفاء الاختلالات الآنية، فيصبح الماضي ستارا كثيفا يحجب عجز الحاضر. فبدل أن تنكب الحكومة كيفما كان لون أحزابها المشكلة الحكومة، على حل مشاكل التعليم والصحة والقدرة الشرائية والصفقات العمومية وتحفيز الاستثمار، تنشغل في خطاب مطول حول ما «ورثته»، بينما ينشغل الرأي العام في تتبع السجالات بدل تتبع السياسات. والأدهى أن هذا السجال يخترق وبذلك يتحول المشهد السياسي إلى فضاء للتلاسن البلاغي، حيث تُستعمل لغة الأخطاء السابقة كسلاح لتثبيت موقع تفاوضي أفضل، أو لخلق شرعية مؤقتة في أعين الناخبين، أو لربح وقت سياسي بانتظار تحسن المؤشرات الاقتصادية بفعل عوامل خارجية.
ويكمن الخطر الأكبر في أن هذا السلوك يعيد إنتاج صورة نمطية عن الدولة نفسها، إذ يجعلها تبدو وكأنها غير قادرة على ضمان استمرارية السياسات العمومية، وغير قادرة على إنتاج نخب تحمل مشاريع واضحة، وغير قادرة على مراكمة الإصلاح.
هكذا إذن، تصبح «شبهة الفساد» خلفية ثابتة ودائمة لكل ما يقع وسيقع في المشهد السياسي، في ظل غياب ثقافة التقييم داخل الإدارة، وفي ظل العجز الكبير لمؤسسات الحكامة والرقابة، رغم التقارير الجريئة التي تقوم بنشرها على العموم، مما يعني أن النسق العام لا يسمح بإنتاج نخب تملك القدرة على بناء سياسات عمومية نزيهة وجديدة. كما يعني أن المغرب الذي يطمح إلى تنزيل النموذج التنموي الجديد، المتوافق حوله، لا يمكنه أن ينتج إصلاحا حقيقيا عبر نخب معطوبة ولا عبر حكومات تتبادل إلقاء كرات النار على الحكومات السابقة، حتى أصبحنا أمام ظاهرة «حكومات الإنقاذ»، والحال أن الإصلاح لا يبدأ من اتهام الآخر، بل من إعادة بناء آليات التنخيب حتى تصبح الأحزاب فضاءات ديمقراطية قادرة على توليد الكفاءات، وحتى تصبح الإدارة إطارا للترقي النزيه في سلم المسؤولية.
ومن هنا يصبح السؤال الجوهري المطروح هو: أي إجراءات يمكن أن تُحدث اختراقًا حقيقيًا داخل هذا النسق المعقد وتحرّك البنية نفسها بدل الاكتفاء بتغيير المواقع بالوجوه نفسها؟
إن تطهير الحقلين السياسي والمؤسساتي من التراشق بالفساد والتشهير الشعبوي بين الفاعلين يحتاج إلى مجموعة متناسقة من التدابير التي تتكامل في ما بينها لتشكل قوة مضادة تتقوى بها الدولة ويصلح المجتمع:
أولا: إقرار استقلال فعلي للمؤسسات الرقابية عبر فصلها مؤسساتيا وماليا عن الجهاز التنفيذي، وتمكينها من الإحالة التلقائية على القضاء دون وساطات أو توافقات سياسية.
ثانيا: تعزيز الولوج إلى المعلومة باعتباره شرطا أساسيا للشفافية، عبر إلزام الإدارات بنشر الصفقات، والكلفة، ومسارات التنفيذ، والصفقات التفاوضية التي تتم في الظل.
ثالثا: تجريم تضارب المصالح بصرامة عبر وضع مدونة واضحة تُلزم المسؤولين بالتصريح الإجباري بالمصالح التجارية والعائلية، ومنع الجمع بين مواقع القرار والمصالح الاقتصادية المباشرة.
رابعا: إعادة هيكلة نظام الصفقات العمومية ليصبح خاضعا لمنصات رقمية موحدة تتيح التتبع اللحظي للمساطر، بما يمنع التدخلات والوسطاء ويقلل من مساحة التلاعب.
خامسا: إصلاح الإدارة العمومية من الداخل عبر تفكيك شبكات النفوذ المترسخة فيها، واعتماد مساطر توظيف وترقية مبنية على الكفاءة لا على العلاقات والولاءات الحزبية.
سادسا: تقوية القضاء باعتباره مركز الثقل في محاربة الفساد، وتسريع البت في الملفات، وربط فتح التحقيقات القضائية بالمعطيات الموثقة دون انتظار إشارة سياسية.
سابعا: إعادة الاعتبار للمجالس المنتخبة عبر جعل تمويلها وتنظيمها خاضعين للرقابة المحاسباتية الدقيقة، وربط مهام رؤساء الجماعات بتعاقدات واضحة تُقيم دوريا، مع إمكانية العزل عند الإخلال بالمسؤولية.
ثامنا: تقليص الاقتصاد الريعي عبر مراجعة مجالات الامتيازات، ورصد مكامن الاحتكار، وتحفيز المنافسة الشفافة، وتطبيق قواعد صارمة تمنع التموقع الاقتصادي عبر القرابة أو النفوذ، لتجنب ظهور «الفراقشية الجدد»!
تاسعا: إطلاق مسار رقمنة شامل للإدارة والجباية والجماعات والمحاكم، باعتبار الرقمنة أداة تُقلص التدخل البشري وتسد المنافذ التي يتحرك عبرها الفساد الصغير والكبير.
عاشرا: توطين ثقافة النزاهة داخل المجتمع عبر التربية على المواطنة، وتغيير السلوك الإداري، وتعزيز دور الإعلام المهني والمجتمع المدني، باعتبار مكافحة الفساد السياسي ليست قرار دولة فقط، بل تغييرا ثقافيا طويل النفس، ينطلق من مؤسسات التنشئة الاجتماعية.
ومع ذلك، يظل الإجراء الجوهري الكفيل بإنجاح إصلاح المشهد السياسي هو الانهماك على إعادة بناء آلية التنخيب داخل الأحزاب والنقابات والإدارات بحيث لا تعود المواقع القيادية رهينة الولاءات الداخلية أو الحسابات الزبونية أو شبكات النفوذ، بل نتاجا لآليات انتخابية شفافة داخل التنظيمات الحزبية، قائمة على التنافس الفكري والبرنامج والقدرة على التدبير والترافع، مع وضع حد للظواهر التي أنتجت «نخبا» عائلية ضعيفة، غير مؤهلة، مظلية، أو مرتبطة بمراكز مصالح خارجية، أو مسخرة من جهات نافذة، أو تتمتع بعطف من جهة ما خارج مدارج الكفاءة والترقي التدريجي.
وإذا كان صحيحا أن الدول لا تنهض بتبادل اللوم بين نخبها أو مؤسساتها، فإن الرهان الحقيقي هو إرساء ثقافة تنتقل بالنخب السياسية والحكومات من ثقافة الاتهام والتشويه إلى ثقافة الإنجاز والتثمين. آنذاك، ستكون أمام حكومات مسؤولة تستغل داخل دائرة الفعل بدل دائرة البلاغة. كما أن الخطاب السياسي سيصبح أكثر نضجا وأكثر قابلية لإقناع المغاربة بأن حكوماتهم تهندس لمستقبل يليق بإرادة التغيير.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"