التراشق الشعبوي بين الأحزاب.. متى ينتهي التناحر وتبدأ السياسة في المغرب؟

التراشق الشعبوي بين الأحزاب.. متى ينتهي التناحر وتبدأ السياسة في المغرب؟ أمناء الأحزاب المغربية
يكشف‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬المغربي،‭ ‬خلال‭ ‬العقد‭ ‬الأخير،‭ ‬أن‭ ‬الفاعل‭ ‬السياسي،‭ ‬بمختلف‭ ‬تشكيلاته‭ ‬المتعاقبة،‭ ‬بات‭ ‬مطمئنا‭ ‬إلى‭ ‬مزاعم‭ ‬«طهرانيته‭ ‬الذاتية»،‭ ‬إذ‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬تهمة‭ ‬الفساد‭ ‬إلى‭ ‬الآخرين،‭ ‬وخاصة‭ ‬إلى‭ ‬الخصوم‭ ‬السياسيين،‭ ‬أداة‭ ‬جاهزة‭ ‬لتفسير‭ ‬كل‭ ‬اختلال‭ ‬في‭ ‬بنيته،‭ ‬وتبرير‭ ‬كل‭ ‬تعثر‭ ‬يعتبر‭ ‬برامجه‭ ‬أو‭ ‬طرق‭ ‬تدبيرها‭.‬

هذا‭ ‬السلوك،‭ ‬كما‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬«الوقائع‭ ‬الفضائحية»‭ ‬لهذا‭ ‬الطرف‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬ليس‭ ‬وليد‭ ‬اليوم،‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬جزءا‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬بنية‭ ‬إنتاج‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسي‭ ‬ذاته،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬ولاية‭ ‬حكومية‭ ‬تبدأ‭ ‬عمليا‭ ‬من‭ ‬نقطة‭ ‬الصفر،‭ ‬وتتعامل‭ ‬مع‭ ‬الماضي‭ ‬القريب‭ ‬باعتباره‭ ‬«لوثة‭ ‬ينبغي‭ ‬التخلص‭ ‬منها»‭ ‬أو‭ ‬لحظة‭ ‬غيرية‭ ‬مليئة‭ ‬بالأخطاء‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬رابط‭ ‬لها‭ ‬ببرنامجها‭ ‬أو‭ ‬فلسفتها‭. ‬وهكذا‭ ‬يُعاد‭ ‬صوغ‭ ‬الزمن‭ ‬السياسي‭ ‬بوصفه‭ ‬قطيعة‭ ‬دائمة‭ ‬بين‭ ‬مرحلتين،‭ ‬حيث‭ ‬تتحول‭ ‬الحكومة‭ ‬الجديدة‭ ‬إلى‭ ‬«ضحية»‭ ‬ترث‭ ‬عبئا‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬التدبير‭ ‬هي‭ ‬بريئة‭ ‬منه،‭ ‬وتتحول‭ ‬الحكومة‭ ‬السابقة‭ ‬إلى‭ ‬«متهم‭ ‬فوق‭ ‬العادة»‭ ‬تستعاد‭ ‬ملفاتها‭ ‬كلما‭ ‬ظهر‭ ‬خلل‭ ‬أو‭ ‬احتقان‭ ‬أو‭ ‬عجز‭ ‬في‭ ‬الأداء،‭ ‬وكأن‭ ‬دفع‭ ‬هذا‭ ‬العجز‭ ‬هو‭ ‬مضمار‭ ‬التباري‭ ‬الذي‭ ‬يشحذ‭ ‬هذا‭ ‬الفاعل‭ ‬آلة‭ ‬دعايته،‭ ‬ويسخر‭ ‬كل‭ ‬طاقاته‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬قهر‭ ‬الخصم‭ ‬وشيطنته‭ ‬ونزع‭ ‬البراءة‭ ‬عنه‭.‬

والواقع‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬ليس‭ ‬مفاجئا،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬تراكم‭ ‬طويل‭ ‬لمسلسل‭ ‬«فضائح»‭ ‬يغذي‭ ‬التوتر‭ ‬بين‭ ‬الفاعلين‭ ‬السياسيين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأوقات؛‭ ‬علما‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬التوتر‭ ‬السياسي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يقوم،‭ ‬في‭ ‬الأصل،‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬الإصلاح،‭ ‬وتقويم‭ ‬الاعوجاج،‭ ‬والإبداع‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬الحلول،‭ ‬والتعامل‭ ‬مع‭ ‬القضايا‭ ‬بمنطق‭ ‬المسؤولية‭ ‬والالتزام،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الفضائح‭ ‬التي‭ ‬تنفجر‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬هذه‭ ‬الحكومة‭ ‬أو‭ ‬تلك،‭ ‬أو‭ ‬هذا‭ ‬الحزب‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬رغم‭ ‬ثقل‭ ‬وزنها‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬القضاء‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الحالات،‭ ‬بل‭ ‬يتم‭ ‬التستر‭ ‬عليها‭ ‬وإقبارها‭ ‬تدريجيا‭ ‬«حتى‭ ‬تنسى‭ ‬وكأنها‭ ‬لم‭ ‬تكن»،‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬المراهنة‭ ‬على‭ ‬النسيان‭ ‬وانتهاج‭ ‬سياسة‭ ‬«كم‭ ‬حاجة‭ ‬قضيناها‭ ‬بتركها»،‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬«عادة‭ ‬حكومية»،‭ ‬والأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬كثيرة،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬ملف‭ ‬«شكولاتة‭ ‬الكروج»‭ ‬الذي‭ ‬أضحى‭ ‬مادة‭ ‬للتهكم‭ ‬السياسي،‭ ‬ثم‭ ‬الاتهامات‭ ‬المتبادلة‭ ‬بين‭ ‬وزراء‭ ‬حول‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬المسار‭ ‬التشريعي‭ ‬خدمة‭ ‬للوبيات‭ ‬التبغ،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الملفات‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والسياسية‭ ‬التي‭ ‬حولت‭ ‬التوتر‭ ‬إلى‭ ‬نمط‭ ‬اشتغال‭. ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬فريق‭ ‬يستبسل‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الفريق‭ ‬الآخر‭ ‬ليفوز‭ ‬بالطهرانية‭ ‬المفترى‭ ‬عليها،‭ ‬ويعزز‭ ‬رصيده‭ ‬الانتخابي‭ ‬للفوز‭ ‬بالكراسي‭ ‬الحكومية‭.‬
 
ومع‭ ‬توالي‭ ‬السنوات،‭ ‬لم‭ ‬تتغير‭ ‬بنية‭ ‬هذا‭ ‬التوتر،‭ ‬بل‭ ‬تعمقت،‭ ‬حيث‭ ‬تحوّل‭ ‬اتهام‭ ‬الآخر‭ ‬«ولو‭ ‬بدون‭ ‬حجج‭ ‬ودلائل»‭ ‬من‭ ‬ظاهرة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬معالجة‭ ‬قانونية‭ ‬وأخلاقية‭ ‬وسوسيولوجية‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬سياسية‭ ‬وظيفية‭ ‬تُستعمل‭ ‬لتصفية‭ ‬الحسابات،‭ ‬وصياغة‭ ‬صورة‭ ‬أحزاب‭ ‬ضد‭ ‬أحزاب،‭ ‬وخلق‭ ‬رأسمال‭ ‬انتخابي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الظهور‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬«النقي»‭ ‬مقابل‭ ‬«الفاسد»،‭ ‬علما‭ ‬أن‭ ‬نشيد‭ ‬فقدان‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬يعزف‭ ‬على‭ ‬إيقاع‭ ‬«كل‭ ‬أولاد‭ ‬عبد‭ ‬الواحد‭ ‬واحد»،‭ ‬ولا‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬يميني‭ ‬ويساري،‭ ‬ولا‭ ‬بين‭ ‬علماني‭ ‬وأصولي!
 
بيد‭ ‬أن‭ ‬الحقيقة‭ ‬الأعمق‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬«التوظيف‭ ‬البلاغي‭ ‬للفساد»،‭ ‬بكل‭ ‬درجاته‭ ‬واستعمالاته،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فصله‭ ‬عن‭ ‬الخلل‭ ‬البنيوي‭ ‬في‭ ‬آليات‭ ‬التنخيب‭ ‬داخل‭ ‬الأحزاب‭ ‬والنقابات‭ ‬والإدارات‭. ‬فالنخب‭ ‬لا‭ ‬تولد‭ ‬في‭ ‬فضاءات‭ ‬مفتوحة‭ ‬للتنافس‭ ‬السياسي،‭ ‬بل‭ ‬تتشكل‭ ‬داخل‭ ‬شبكات‭ ‬مغلقة‭ ‬تحكمها‭ ‬الولاءات‭ ‬والتوازنات‭ ‬والتفاهمات‭ ‬غير‭ ‬المعلنة‭. ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬النسق،‭ ‬يصبح‭ ‬الفاعل‭ ‬السياسي‭ ‬ابن‭ ‬بنية‭ ‬تفضيلية‭ ‬لا‭ ‬تكافئ‭ ‬الكفاءة‭ ‬ولا‭ ‬الخبرة‭ ‬ولا‭ ‬الاستقلالية،‭ ‬بل‭ ‬تكافئ‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الانضمام‭ ‬إلى‭ ‬دوائر‭ ‬النفوذ،‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬الانتفاع‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬الامتيازات‭ ‬التي‭ ‬يتيحه‭ ‬الولاء‭. ‬لذلك،‭ ‬حين‭ ‬يصل‭ ‬هذا‭ ‬الفاعل‭ ‬إلى‭ ‬تدبير‭ ‬الشأن‭ ‬العام،‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬أمامه‭ ‬سوى‭ ‬خطاب‭ ‬الاتهام‭ ‬جاهزا‭ ‬ومستساغا،‭ ‬لأنه‭ ‬يعفيه‭ ‬من‭ ‬مواجهة‭ ‬أعطاب‭ ‬المنظومة‭ ‬التي‭ ‬أنتجته‭ ‬أصلا‭ ‬وجاءت‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الكرسي‭ ‬الوزاري‭. ‬
 
‬وإذا‭ ‬تتبعنا‭ ‬المسار‭ ‬الزمني‭ ‬لتطور‭ ‬الاتهامات‭ ‬الحكومية‭ ‬بالفساد‭ ‬سنلاحظ‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬حكومة‭ ‬تقريبًا‭ ‬اعتبرت‭ ‬نفسها‭ ‬ضحية‭ ‬لسياسات‭ ‬سابقتها‭. ‬فحكومة‭ ‬2012‭ ‬أشارت‭ ‬إلى‭ ‬إرث‭ ‬ثقيل‭ ‬من‭ ‬العجز‭ ‬والاختلالات‭ ‬المالية،‭ ‬وحكومة‭ ‬2016‭ ‬استعادت‭ ‬ملفات‭ ‬الحكومات‭ ‬التي‭ ‬قبلها‭ ‬لتبرير‭ ‬تأخر‭ ‬الإصلاحات،‭ ‬وحكومة‭ ‬2021‭ ‬أعادت‭ ‬بدورها‭ ‬نفس‭ ‬الأسطوانة،‭ ‬متحدثة‭ ‬عن‭ ‬إرث‭ ‬«عشرين‭ ‬سنة»‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬التدبير،‭ ‬وكأن‭ ‬الحزب‭ ‬«الأغلبي»‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مشاركا‭ ‬في‭ ‬الحكومة‭ ‬السابقة،‭ ‬حتى‭ ‬بدا‭ ‬أن‭ ‬الزمن‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬يتحرك‭ ‬وفق‭ ‬هندسة‭ ‬واحدة:‭ ‬كل‭ ‬حكومة‭ ‬تبدأ‭ ‬عهدتها‭ ‬بـ‭ ‬«جرد‭ ‬سلبيات»‭ ‬من‭ ‬سبقها،‭ ‬وتغتنم‭ ‬فرص‭ ‬الأزمات‭ ‬لإعادة‭ ‬فتح‭ ‬ملفات‭ ‬قديمة‭ ‬كانت‭ ‬مجمدة‭ ‬أو‭ ‬لم‭ ‬تُحاسب‭. ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬يظهر‭ ‬ملف‭ ‬جديد،‭ ‬من‭ ‬صفقة‭ ‬عمومية‭ ‬غامضة‭ ‬إلى‭ ‬تضارب‭ ‬مصالح‭ ‬أو‭ ‬اختلال‭ ‬مالي‭ ‬في‭ ‬مؤسسة‭ ‬معينة،‭ ‬يتم‭ ‬استخدام‭ ‬الحدث‭ ‬كذخيرة‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مناسبة‭ ‬لتعزيز‭ ‬آليات‭ ‬الرقابة‭ ‬والمساءلة‭. ‬بل‭ ‬يتعمق‭ ‬الإشكال‭ ‬حين‭ ‬تتحول‭ ‬الاتهامات‭ ‬المتبادلة‭ ‬إلى‭ ‬وسيلة‭ ‬لإخفاء‭ ‬الاختلالات‭ ‬الآنية،‭ ‬فيصبح‭ ‬الماضي‭ ‬ستارا‭ ‬كثيفا‭ ‬يحجب‭ ‬عجز‭ ‬الحاضر‭. ‬فبدل‭ ‬أن‭ ‬تنكب‭ ‬الحكومة‭ ‬كيفما‭ ‬كان‭ ‬لون‭ ‬أحزابها‭ ‬المشكلة‭ ‬الحكومة،‭ ‬على‭ ‬حل‭ ‬مشاكل‭ ‬التعليم‭ ‬والصحة‭ ‬والقدرة‭ ‬الشرائية‭ ‬والصفقات‭ ‬العمومية‭ ‬وتحفيز‭ ‬الاستثمار،‭ ‬تنشغل‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬مطول‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬«ورثته»،‭ ‬بينما‭ ‬ينشغل‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬تتبع‭ ‬السجالات‭ ‬بدل‭ ‬تتبع‭ ‬السياسات‭. ‬والأدهى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬السجال‭ ‬يخترق‭ ‬وبذلك‭ ‬يتحول‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬للتلاسن‭ ‬البلاغي،‭ ‬حيث‭ ‬تُستعمل‭ ‬لغة‭ ‬الأخطاء‭ ‬السابقة‭ ‬كسلاح‭ ‬لتثبيت‭ ‬موقع‭ ‬تفاوضي‭ ‬أفضل،‭ ‬أو‭ ‬لخلق‭ ‬شرعية‭ ‬مؤقتة‭ ‬في‭ ‬أعين‭ ‬الناخبين،‭ ‬أو‭ ‬لربح‭ ‬وقت‭ ‬سياسي‭ ‬بانتظار‭ ‬تحسن‭ ‬المؤشرات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬بفعل‭ ‬عوامل‭ ‬خارجية‭.‬
 
ويكمن‭ ‬الخطر‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬يعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬صورة‭ ‬نمطية‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬نفسها،‭ ‬إذ‭ ‬يجعلها‭ ‬تبدو‭ ‬وكأنها‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬ضمان‭ ‬استمرارية‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية،‭ ‬وغير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬نخب‭ ‬تحمل‭ ‬مشاريع‭ ‬واضحة،‭ ‬وغير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬مراكمة‭ ‬الإصلاح‭.‬
 
هكذا‭ ‬إذن،‭ ‬تصبح‭ ‬«شبهة‭ ‬الفساد»‭ ‬خلفية‭ ‬ثابتة‭ ‬ودائمة‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬وسيقع‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬غياب‭ ‬ثقافة‭ ‬التقييم‭ ‬داخل‭ ‬الإدارة،‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬العجز‭ ‬الكبير‭ ‬لمؤسسات‭ ‬الحكامة‭ ‬والرقابة،‭ ‬رغم‭ ‬التقارير‭ ‬الجريئة‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بنشرها‭ ‬على‭ ‬العموم،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬النسق‭ ‬العام‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬بإنتاج‭ ‬نخب‭ ‬تملك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬سياسات‭ ‬عمومية‭ ‬نزيهة‭ ‬وجديدة‭. ‬كما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬المغرب‭ ‬الذي‭ ‬يطمح‭ ‬إلى‭ ‬تنزيل‭ ‬النموذج‭ ‬التنموي‭ ‬الجديد،‭ ‬المتوافق‭ ‬حوله،‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬ينتج‭ ‬إصلاحا‭ ‬حقيقيا‭ ‬عبر‭ ‬نخب‭ ‬معطوبة‭ ‬ولا‭ ‬عبر‭ ‬حكومات‭ ‬تتبادل‭ ‬إلقاء‭ ‬كرات‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬الحكومات‭ ‬السابقة،‭ ‬حتى‭ ‬أصبحنا‭ ‬أمام‭ ‬ظاهرة‭ ‬«حكومات‭ ‬الإنقاذ»،‭ ‬والحال‭ ‬أن‭ ‬الإصلاح‭ ‬لا‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬اتهام‭ ‬الآخر،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬آليات‭ ‬التنخيب‭ ‬حتى‭ ‬تصبح‭ ‬الأحزاب‭ ‬فضاءات‭ ‬ديمقراطية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬توليد‭ ‬الكفاءات،‭ ‬وحتى‭ ‬تصبح‭ ‬الإدارة‭ ‬إطارا‭ ‬للترقي‭ ‬النزيه‭ ‬في‭ ‬سلم‭ ‬المسؤولية‭.‬
 
ومن‭ ‬هنا‭ ‬يصبح‭ ‬السؤال‭ ‬الجوهري‭ ‬المطروح‭ ‬هو:‭ ‬أي‭ ‬إجراءات‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُحدث‭ ‬اختراقًا‭ ‬حقيقيًا‭ ‬داخل‭ ‬هذا‭ ‬النسق‭ ‬المعقد‭ ‬وتحرّك‭ ‬البنية‭ ‬نفسها‭ ‬بدل‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بتغيير‭ ‬المواقع‭ ‬بالوجوه‭ ‬نفسها؟‭ ‬
 
إن‭ ‬تطهير‭ ‬الحقلين‭ ‬السياسي‭ ‬والمؤسساتي‭ ‬من‭ ‬التراشق‭ ‬بالفساد‭ ‬والتشهير‭ ‬الشعبوي‭ ‬بين‭ ‬الفاعلين‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬متناسقة‭ ‬من‭ ‬التدابير‭ ‬التي‭ ‬تتكامل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬لتشكل‭ ‬قوة‭ ‬مضادة‭ ‬تتقوى‭ ‬بها‭ ‬الدولة‭ ‬ويصلح‭ ‬المجتمع:
 
أولا‭:‬‭ ‬إقرار‭ ‬استقلال‭ ‬فعلي‭ ‬للمؤسسات‭ ‬الرقابية‭ ‬عبر‭ ‬فصلها‭ ‬مؤسساتيا‭ ‬وماليا‭ ‬عن‭ ‬الجهاز‭ ‬التنفيذي،‭ ‬وتمكينها‭ ‬من‭ ‬الإحالة‭ ‬التلقائية‭ ‬على‭ ‬القضاء‭ ‬دون‭ ‬وساطات‭ ‬أو‭ ‬توافقات‭ ‬سياسية‭.‬
ثانيا‭:‬‭ ‬تعزيز‭ ‬الولوج‭ ‬إلى‭ ‬المعلومة‭ ‬باعتباره‭ ‬شرطا‭ ‬أساسيا‭ ‬للشفافية،‭ ‬عبر‭ ‬إلزام‭ ‬الإدارات‭ ‬بنشر‭ ‬الصفقات،‭ ‬والكلفة،‭ ‬ومسارات‭ ‬التنفيذ،‭ ‬والصفقات‭ ‬التفاوضية‭ ‬التي‭ ‬تتم‭ ‬في‭ ‬الظل‭.‬
ثالثا‭:‬‭ ‬تجريم‭ ‬تضارب‭ ‬المصالح‭ ‬بصرامة‭ ‬عبر‭ ‬وضع‭ ‬مدونة‭ ‬واضحة‭ ‬تُلزم‭ ‬المسؤولين‭ ‬بالتصريح‭ ‬الإجباري‭ ‬بالمصالح‭ ‬التجارية‭ ‬والعائلية،‭ ‬ومنع‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬مواقع‭ ‬القرار‭ ‬والمصالح‭ ‬الاقتصادية‭ ‬المباشرة‭.‬
رابعا‭:‬‭ ‬إعادة‭ ‬هيكلة‭ ‬نظام‭ ‬الصفقات‭ ‬العمومية‭ ‬ليصبح‭ ‬خاضعا‭ ‬لمنصات‭ ‬رقمية‭ ‬موحدة‭ ‬تتيح‭ ‬التتبع‭ ‬اللحظي‭ ‬للمساطر،‭ ‬بما‭ ‬يمنع‭ ‬التدخلات‭ ‬والوسطاء‭ ‬ويقلل‭ ‬من‭ ‬مساحة‭ ‬التلاعب‭.‬
خامسا‭:‬‭ ‬إصلاح‭ ‬الإدارة‭ ‬العمومية‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬عبر‭ ‬تفكيك‭ ‬شبكات‭ ‬النفوذ‭ ‬المترسخة‭ ‬فيها،‭ ‬واعتماد‭ ‬مساطر‭ ‬توظيف‭ ‬وترقية‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬الكفاءة‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬العلاقات‭ ‬والولاءات‭ ‬الحزبية‭.‬
سادسا‭:‬‭ ‬تقوية‭ ‬القضاء‭ ‬باعتباره‭ ‬مركز‭ ‬الثقل‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬الفساد،‭ ‬وتسريع‭ ‬البت‭ ‬في‭ ‬الملفات،‭ ‬وربط‭ ‬فتح‭ ‬التحقيقات‭ ‬القضائية‭ ‬بالمعطيات‭ ‬الموثقة‭ ‬دون‭ ‬انتظار‭ ‬إشارة‭ ‬سياسية‭.‬
سابعا‭:‬‭ ‬إعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬للمجالس‭ ‬المنتخبة‭ ‬عبر‭ ‬جعل‭ ‬تمويلها‭ ‬وتنظيمها‭ ‬خاضعين‭ ‬للرقابة‭ ‬المحاسباتية‭ ‬الدقيقة،‭ ‬وربط‭ ‬مهام‭ ‬رؤساء‭ ‬الجماعات‭ ‬بتعاقدات‭ ‬واضحة‭ ‬تُقيم‭ ‬دوريا،‭ ‬مع‭ ‬إمكانية‭ ‬العزل‭ ‬عند‭ ‬الإخلال‭ ‬بالمسؤولية‭.‬
ثامنا‭:‬‭ ‬تقليص‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الريعي‭ ‬عبر‭ ‬مراجعة‭ ‬مجالات‭ ‬الامتيازات،‭ ‬ورصد‭ ‬مكامن‭ ‬الاحتكار،‭ ‬وتحفيز‭ ‬المنافسة‭ ‬الشفافة،‭ ‬وتطبيق‭ ‬قواعد‭ ‬صارمة‭ ‬تمنع‭ ‬التموقع‭ ‬الاقتصادي‭ ‬عبر‭ ‬القرابة‭ ‬أو‭ ‬النفوذ،‭ ‬لتجنب‭ ‬ظهور‭ ‬«الفراقشية‭ ‬الجدد»!
تاسعا‭:‬‭ ‬إطلاق‭ ‬مسار‭ ‬رقمنة‭ ‬شامل‭ ‬للإدارة‭ ‬والجباية‭ ‬والجماعات‭ ‬والمحاكم،‭ ‬باعتبار‭ ‬الرقمنة‭ ‬أداة‭ ‬تُقلص‭ ‬التدخل‭ ‬البشري‭ ‬وتسد‭ ‬المنافذ‭ ‬التي‭ ‬يتحرك‭ ‬عبرها‭ ‬الفساد‭ ‬الصغير‭ ‬والكبير‭.‬
عاشرا‭:‬‭ ‬توطين‭ ‬ثقافة‭ ‬النزاهة‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬عبر‭ ‬التربية‭ ‬على‭ ‬المواطنة،‭ ‬وتغيير‭ ‬السلوك‭ ‬الإداري،‭ ‬وتعزيز‭ ‬دور‭ ‬الإعلام‭ ‬المهني‭ ‬والمجتمع‭ ‬المدني،‭ ‬باعتبار‭ ‬مكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬السياسي‭ ‬ليست‭ ‬قرار‭ ‬دولة‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬تغييرا‭ ‬ثقافيا‭ ‬طويل‭ ‬النفس،‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬مؤسسات‭ ‬التنشئة‭ ‬الاجتماعية‭.‬
 
ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬يظل‭ ‬الإجراء‭ ‬الجوهري‭ ‬الكفيل‭ ‬بإنجاح‭ ‬إصلاح‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬هو‭ ‬الانهماك‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬آلية‭ ‬التنخيب‭ ‬داخل‭ ‬الأحزاب‭ ‬والنقابات‭ ‬والإدارات‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬تعود‭ ‬المواقع‭ ‬القيادية‭ ‬رهينة‭ ‬الولاءات‭ ‬الداخلية‭ ‬أو‭ ‬الحسابات‭ ‬الزبونية‭ ‬أو‭ ‬شبكات‭ ‬النفوذ،‭ ‬بل‭ ‬نتاجا‭ ‬لآليات‭ ‬انتخابية‭ ‬شفافة‭ ‬داخل‭ ‬التنظيمات‭ ‬الحزبية،‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬التنافس‭ ‬الفكري‭ ‬والبرنامج‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬التدبير‭ ‬والترافع،‭ ‬مع‭ ‬وضع‭ ‬حد‭ ‬للظواهر‭ ‬التي‭ ‬أنتجت‭ ‬«نخبا»‭ ‬عائلية‭ ‬ضعيفة،‭ ‬غير‭ ‬مؤهلة،‭ ‬مظلية،‭ ‬أو‭ ‬مرتبطة‭ ‬بمراكز‭ ‬مصالح‭ ‬خارجية،‭ ‬أو‭ ‬مسخرة‭ ‬من‭ ‬جهات‭ ‬نافذة،‭ ‬أو‭ ‬تتمتع‭ ‬بعطف‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ما‭ ‬خارج‭ ‬مدارج‭ ‬الكفاءة‭ ‬والترقي‭ ‬التدريجي‭.‬
 
وإذا‭ ‬كان‭ ‬صحيحا‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬لا‭ ‬تنهض‭ ‬بتبادل‭ ‬اللوم‭ ‬بين‭ ‬نخبها‭ ‬أو‭ ‬مؤسساتها،‭ ‬فإن‭ ‬الرهان‭ ‬الحقيقي‭ ‬هو‭ ‬إرساء‭ ‬ثقافة‭ ‬تنتقل‭ ‬بالنخب‭ ‬السياسية‭ ‬والحكومات‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬الاتهام‭ ‬والتشويه‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬الإنجاز‭ ‬والتثمين‭. ‬آنذاك،‭ ‬ستكون‭ ‬أمام‭ ‬حكومات‭ ‬مسؤولة‭ ‬تستغل‭ ‬داخل‭ ‬دائرة‭ ‬الفعل‭ ‬بدل‭ ‬دائرة‭ ‬البلاغة‭.  ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسي‭ ‬سيصبح‭ ‬أكثر‭ ‬نضجا‭ ‬وأكثر‭ ‬قابلية‭ ‬لإقناع‭ ‬المغاربة‭ ‬بأن‭ ‬حكوماتهم‭ ‬تهندس‭ ‬لمستقبل‭ ‬يليق‭ ‬بإرادة‭ ‬التغيير‭.‬
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن
رابط العدد هنا