شارك وزير التجهيز والماء السيد نزار بركة في جلسة وزارية رفيعة خلال المؤتمر العالمي للماء في دورته الـ19 بمراكش، غير أنّ حضوره لم يقتصر على الجانب البروتوكولي، بل حمل معه رؤية تجعل من الماء محوراً لإعادة تعريف الأمن الوطني ككل. فقد بدا واضحاً أن الوزير جاء إلى هذا الملتقى الدولي مسلّحاً بقناعة: الماء لم يعد مورداً قطاعياً، بل قضية استراتيجية تلامس الطاقة والغذاء والاستقرار الاجتماعي.
ماء، طاقة، غذاء… مثلث الأمن الجديد
في مداخلته، وضع نزار بركة أمام المشاركين – من رؤساء منظمات دولية وخبراء الأمم المتحدة في قضايا المياه والمناخ – تصوراً يذهب أبعد من النقاش التقني المعتاد. فقد شدد على أنّ العالم يدخل مرحلة “الترابط الصادم” بين الأزمات: ندرة المياه، التحولات الطاقية، وارتفاع الطلب الغذائي.
ولذلك، دعا إلى مقاربة كوكبية شمولية تدمج هذه الأبعاد الثلاثة، حيث تصبح الرقمنة والابتكار حجر الزاوية في أي سياسة مائية مستقبلية قادرة على الصمود أمام تقلبات المناخ.
هذا الخطاب لم يكن تحليلاً نظرياً، بل امتداداً لرؤية مغربية تتبلور ميدانياً على مدى عقدين بفضل التوجيهات الملكية، والتي جعلت من سيادة الماء إحدى ركائز أمن المملكة.
النموذج المغربي: من إدارة الندرة إلى بناء السيادة المائية
قدّم الوزير قراءة مفصلة للخيارات الاستراتيجية التي اعتمدها المغرب، مؤكداً أن تراكم التجارب وعنف الظواهر المناخية فرضا على الدولة نهج سياسة تقوم على “التحوّط الاستراتيجي”.
وهنا برز عنصران مركزيان:
1. السدود… العمود الفقري للأمن المائي
رغم التحولات المناخية القاسية، اختار المغرب المضي في بناء السدود باعتبارها رصيداً وطنياً استراتيجياً، وليس مجرد بنية تحتية. فالرهان اليوم هو تعزيز قدرة التخزين، ورفع جاهزية البلاد للتقلبات المناخية الحادة التي أصبحت أكثر تواتراً.
2. تحلية مياه البحر بالطاقات المتجددة… ثورة مغربية هادئة
استعرض نزار بركة تطوراً لافتاً:
خفض تكلفة إنتاج المتر المكعب من الماء المحلّى بنسبة 50% بفضل اعتماد الطاقات المتجددة،
الوصول إلى تكلفة لا تتجاوز 40 سنتاً أمريكياً،
مع الحرص على تخفيض سعر الماء الفلاحي مقارنة بالماء الشروب لضمان الأمن الغذائي ودعم استدامة الفلاح الصغير والمتوسط.
هذا التحول لا يعني فقط الاستجابة للضغط المائي، بل يبني نموذجاً اقتصادياً جديداً حول الماء يربط بين التكنولوجيا والسيادة وبين الطاقة والمردودية.
الفلاحة… انتقال هادئ نحو نموذج أكثر ترشيداً
لم يغفل الوزير التغير الكبير الذي تعرفه الفلاحة المغربية. فقد بدأ القطاع يبتعد تدريجياً عن الزراعات المستنزفة للماء، متجهاً نحو:
التنقيط وتقنيات الري الذكي،
زراعات عالية القيمة وقليلة الاستهلاك المائي،
تشجيع أنماط إنتاج أكثر ملاءمة للمناخ الجديد.
بهذا المعنى، لم يعد التحول الفلاحي خياراً اقتصادياً، بل ضرورة استراتيجية لحماية الأمن الغذائي.
مشاريع كبرى تعيد رسم جغرافية الماء بالمغرب
قدّم نزار بركة معالم تحول عميق يجري داخل الهندسة الوطنية للماء، أبرزها:
تأمين 100% من مياه الشرب و80% من مياه السقي وفق توجيهات جلالة الملك،
إنجاز الطريق السيار المائي الذي يربط مناطق الوفرة بمناطق الندرة،
تحويل المياه التي كانت تُهدر في البحر نحو مناطق تعاني العطش والجفاف،
ربط السدود ببعضها داخل شبكات وطنية للتضامن المائي بين الجهات.
هذه المشاريع لا تعكس فقط براغماتية هندسية، بل تعبر عن رؤية دولة تُعيد توزيع الحياة حيث تشتد الحاجة، وتحوّل الماء إلى عنصر وحدة وطنية.
خلاصة: المغرب يبني أمنه المائي… ويقترح على العالم نموذجاً
بمشاركته في مؤتمر مراكش، قدّم السيد نزار بركة صورة واضحة عن مغرب لا يكتفي بمواجهة الأزمة، بل يصنع نموذجاً يمكن للعالم أن يستلهم منه.
فالسياسات المغربية اليوم – من السدود إلى التحلية وربط الشبكات – تشكّل ركائز مشروع وطني لبناء سيادة مائية كاملة، قائمة على الابتكار والمسؤولية والاستباق.
إنها رسالة تتجاوز حدود المؤتمر:
مستقبل الدول سيتحدد بقدرتها على التحكم في الماء… والمغرب قرّر أن يكون في الصفوف الأمامية لهذا المستقبل.