الجمود المؤسسي قد يبدو، للوهلة الأولى، مجرد تأخير إداري عابر.
لكن في حالة الجسم الطبي المغربي، فهو أشبه بعبوة موقوتة تنتظر لحظة الانفجار.
فمنذ سنوات، لم تُجدَّد هيئات المجلس الوطني والهيئات الجهوية للأطباء.
هذا التعطيل، الذي جرى التقليل من خطورته لزمن طويل، ترك المشهد الطبي مفككاً، بلا بوصلة، بلا صوت شرعي، وبلا قيادة تملك قوة الإقناع والتأثير.
إنه فراغ لا يثقل كاهل الأطباء فقط، بل يضغط على التوازن الاجتماعي برمّته.
هيئة غير مجدّدة… مهنة سائبة في مواجهة المجهول
حين تفقد الهيئة الطبية شرعيتها الانتخابية، تخسر قوتها الأساسية: كونها الجسر المتين بين الدولة والأطباء.
وغياب الانتخابات والتمثيلية والشرعية المتجددة يضع الأطباء أمام ثلاث تبعات خطيرة:
فقدان الثقة داخل المهنة
لم يعد الأطباء يشعرون بأن هناك من يمثلهم فعلاً.
المسافة تتسع بينهم وبين هيئات جامدة لا تعكس همومهم، ولا تواكب التغيرات السريعة التي يعرفها القطاع.
تراجع السلطة المعنوية والاحترام
هيئة ضعيفة لا تستطيع أن تلعب دور الحكم الأخلاقي، ولا المنظم المهني، ولا الوسيط بين المؤسسات.
مواقفها تصبح هامشية، غير مسموعة، بل أحياناً مُهمَلة تماماً.
خطر اجتماعي حقيقي
الأطباء حاضرون في كل المدن والقرى، وسط علاقة مباشرة مع ملايين المواطنين.
وحين يشعر الجسم الطبي بالإحباط وغياب التأطير، يتحول بسهولة إلى شاشة تعكس التوتر الاجتماعي.
وحين يشعر الطبيب بأنه متروك لمصيره، يمكن أن تصبح غضبة الشارع أعلى صوتاً وأكثر استعداداً للاشتعال.
من المستفيد من بقاء الوضع على حاله؟
في سياق يتغير بسرعة، غياب الانتخابات ليس أمراً بريئاً.
ثلاث جهات يمكن أن تستفيد من هذا الجمود:
صنّاع القرار الذين يفضّلون مخاطباً ضعيفاً
هيئة غير مجددة أضعف، أقل احتجاجاً، وأقل قدرة على توحيد الصف الطبي.
وفي زمن تتسارع فيه الإصلاحات، يكون التعامل مع هيئة بلا قوة ولا شرعية أمراً مريحاً.
قوى اقتصادية صاعدة
القطاع الصحي الخاص يشهد توسعاً غير مسبوق.
ووجود هيئة ضعيفة يفتح الباب أمام مشاريع الهيمنة، بلا ضوابط، وبلا مراقبة أخلاقية، وبلا قوة مهنية مضادة.
كلما ضعفت الهيئة، اشتدت شهية بعض الفاعلين لبسط النفوذ.
أقلية داخل الهيئة تتمسك بالمناصب
بعض المسؤولين قد يجدون في تأجيل الانتخابات فرصة لتمديد وجودهم، بعيداً عن المحاسبة والتجديد والدماء الجديدة.
حين يكون المجلس منتخباً ديمقراطياً… يصبح ركيزة للصحة العامة
في عدة دول، يشكل المجلس الطبي المنتخب حجر زاوية في حماية المهنة والمريض معاً.
ثلاث تجارب دولية تبرز ذلك بوضوح:
فرنسا: الهيئة كجدار أخلاقي يحمي المهنة
حين تعمل الهيئة بكامل شرعيتها، تراقب جودة الممارسة، تنظم الفتحات الطبية، تعاقب التجاوزات، وتوجّه الدولة في الإصلاحات.
قوتها تأتي من الشرعية الانتخابية.
كندا: مؤسسات حماة لسلامة المرضى
الهيئات المنتخبة هناك تشرف على الاعتماد، والتقييم المستمر، والانضباط المهني، وتلعب دوراً مباشراً في تحسين جودة الرعاية.
المملكة المتحدة: المجلس الطبي العام GMC وعامل الثقة
رغم طابعه المؤسساتي القوي، يعتمد GMC على آليات انتخابية داخلية تمنحه مصداقية واسعة.
يشرف على التكوين المستمر، يحمي المريض، ويعد من أكثر الهيئات احتراماً في العالم.
المغرب لا يملك ترف الانتظار
بدون انتخابات، وبدون هيئات مجددة، وبدون تمثيلية ذات شرعية، يمضي نظام الصحة في المغرب بخط عريض من الهشاشة…
وهذا الخلل الظاهر للجميع قد يتحول في أي لحظة إلى نقطة انهيار.
المغرب يعيش انتقالاً صحياً كبيراً: تعميم التغطية الصحية، مشاريع بنية تحتية جديدة، توسع القطاع الخاص، خصاص الأطباء، تغييرات قانونية…
وفي هذه المرحلة الحساسة، ترك الهيئة الطبية في حالة "غيبوبة مؤسساتية" هو حرمان للبلاد من أحد أهم صمامات الأمان.
هيئة منتخبة، شرعية، حديثة، وفعّالة ليست امتيازاً.
إنها ضرورة استراتيجية.
للأطباء، وللمرضى، وللسلم الاجتماعي.
الدكتور أنور الشرقاوي، خبير في التواصل الطبي والإعلام الصحي