مقدمة:
لم يعد السؤال في فرنسا اليوم هو: كيف نحمي الجمهورية من المشاريع الأيديولوجية المغلقة؟ بل أصبح: هل تتجه الدولة نحو إعادة إنتاج آليات «محاكم التفتيش» الحديثة، حيث تتحوّل الممارسات الدينية الاعتيادية إلى تهديد أمني، ويُستهدف المسلم العادي بجريرة تنظيم لا علاقة له به؟
فمع كل توصية جديدة تصدر عن لجنة أو حزب أو وزير، يتكرر المشهد ذاته: إجراءات تمسّ الحجاب والصيام والجمعيات والمساجد، وتُقدَّم بوصفها حرباً على «الانفصالية» أو «الإخوان»، بينما تضرب عملياً في عمق الحرية الدينية نفسها. وهنا يتولد السؤال الجوهري: هل المشكلة هي الإسلام السياسي؟ أم الإسلام حين يظهر في المجال العام؟
توصيات تُحوِّل الحرية إلى امتياز قابل للسحب
يعرض التقرير الرسمي الأخير جملة من الإجراءات التي تستهدف مباشرة الحقوق الفردية والدينية، من بينها:
منع الحجاب للقاصرات: إجراء غير قابل للتطبيق، ينتج وصماً اجتماعياً ويقصي الفتيات من الفضاء العام.
منع الصيام للقاصرين: تدخل غير مبرر في الحياة الأسرية، يفتح باباً لممارسات رقابية غير إنسانية.
منع المرافقات المحجبات من الأنشطة المدرسية: خلط بين حياد الدولة وحرية المواطنين، وإقصاء فعلي للأمهات من المشاركة المدرسية.
تشديد الرقابة على الجمعيات والمساجد: خلق مناخ دائم من الشك والاتهام، وتفكيك الروابط الاجتماعية المحلية.
توسيع صلاحيات المحافظين وحل الجمعيات: تركيز مفرط للسلطة دون ضوابط قضائية كافية.
مراقبة عقائدية للمرشحين السياسيين: مسا خطيراً بمبدأ المساواة السياسية وفتح باب الانتقاء السياسي.
هذه السياسات تعاني ثلاث مشكلات بنيوية:
انتهاك الحقوق الفردية: تحويل الحرية الدينية من حق دستوري إلى امتياز قابل للسحب.
استحالة التطبيق واحتمال التعسف: فكيف تُراقَب عبادة شخصية كالصيام، أو يُحدَّد عمر فتاة في الشارع؟
نتائج عكسية: إذ تعمّق هذه السياسات شعور الاضطهاد وتفتح المجال أمام الخطابات المتطرفة لاستقطاب الشباب المهمَّش.
الإعلام وصناعة الخوف
لم يكتفِ الخطاب الإعلامي بعرض هذه التوصيات، بل ساهم في شرعنتها عبر بناء صورة تهويلية:
ربط التدين العادي بالتهديد الأمني.
اعتماد استطلاعات بلا أسس منهجية واضحة، ما يفقدها المصداقية.
تقديم علاقة تبسيطية بين التدين والسلوك السياسي.
الخلط بين التدين الشخصي والمشاريع السياسية المنظمة.
بهذا الدور، يصبح الإعلام مُنتِجاً لـ«رأي عام خائف»، يُستخدم لتبرير سياسات تُضيّق على الحريات وتعمق الانقسام المجتمعي، بدل ترسيخ الثقة والانتماء المشترك.
الحرب المؤجلة أم الحرب المموّهة؟
إذا كانت فرنسا ترى في تنظيمات الإسلام السياسي، وعلى رأسها الإخوان، تهديداً لأمنها وقيمها الجمهورية، فإن المواجهة الصريحة تكون عبر:
تفكيك الشبكات التنظيمية،
ضبط التمويل،
مراقبة الأنشطة السياسية والأيديولوجية،
تعزيز القدرة المؤسساتية على محاربة التطرف الاجرامي.
أما اختزال المعركة في منع الصيام والحجاب أو التضييق على الجمعيات، فهو التفاف واضح يخلط بين التنظيمات وبين عموم المسلمين.
الشجاعة السياسية الحقيقية لا تتجسد في ملاحقة الرموز الدينية البسيطة، بل في مواجهة المشاريع الأيديولوجية المغلقة بأدوات سياسية وأمنية وقانونية واضحة.
أين تكمن الأزمة الحقيقية؟
يمكن تلخيص الإشكالات الكبرى في ثلاث نقاط مركزية:
انتهاك مبدأ الحرية: إجراءات المنع والرقابة العقائدية تُحوّل المواطن المؤمن إلى متَّهَم محتمل.
سياسات غير قابلة للتطبيق: غياب التعريفات الدقيقة للمفاهيم («الانفصالية»، «التأثير الأيديولوجي»…)، وفتح الباب أمام التقدير الشخصي للسلطة.
آثار اجتماعية خطيرة: إذ تنتج هذه السياسات شعوراً بالاستهداف الجماعي، ما يُضعف الثقة في المؤسسات ويخلق هوّة بين الدولة ومواطنيها المسلمين.
في المقابل، توجد بدائل أكثر اتزاناً:
رقابة مالية مبنية على الأدلة لا على الانطباعات.
دعم الجمعيات بدل تجفيف مواردها.
تعليم نقدي يحصّن الشباب من الأفكار المتطرفة.
حوار مؤسساتي لا يقوم على الشبهة.
إخراج المسلم العادي من ساحة المعركة
لا يمكن لأي سياسة عقلانية أن تنتصر ما لم يُوضَع المسلم العادي خارج دائرة الاشتباه.
فالتمييز ليس «تفصيلاً»، بل عامل يولّد التطرف بدل محاربته.
المطلوب هو:
تحديد الخصم السياسي بوضوح،
حماية الحرية الدينية دون تأويلات سياسية،
رقابة مبنية على معايير موضوعية،
تشجيع انخراط المسلمين في الحياة العامة لا تهميشهم.
إخراج المواطن المسلم من دائرة الشبهة ليس منّة من الدولة، بل ضرورة للأمن الاجتماعي ولتماسك الجمهورية نفسها.
خاتمة:
بين الحرب على الإخوان والحرب على الإسلام، تختار فرنسا أحياناً منطقة رمادية لا تُطمئن أحداً.
فإذا كانت المواجهة مع الإسلام السياسي، فلتكن مواجهة سياسية واضحة ومباشرة.
وإذا كانت المشكلة هي الإسلام في مظاهره البسيطة، فلن يجدي إخفاء ذلك خلف شعارات اللائكية.
إن استمرار السياسات الحالية يضع فرنسا فعلاً على عتبة «محاكم تفتيش» جديدة، حيث يُحاسَب المواطن على نواياه الدينية لا على أفعاله. وهذا المسار لا يحمي الديمقراطية، بل يُضعفها، ويزرع بذور صراع هويّاتي طويل الأمد.
وحدها الشجاعة السياسية الحقيقية—لا الإجراءات الرمزية ضد الحجاب والصيام—يمكن أن تضمن مواجهة رشيدة للتطرف من دون استعداء الدين ذاته.