عثمان بن شقرون: "التوصيل مجاني" اقتصاد الراحة وصناعة الإنسان الكسول

عثمان بن شقرون: "التوصيل مجاني" اقتصاد الراحة وصناعة الإنسان الكسول عثمان بن شقرون
1. مقدمة: من عبارة عابرة إلى عقيدة للراحة
حين تتحوّل جملة بسيطة إلى منطق كامل للعالم، يتغيّر كل شيء دون أن ننتبه. لم تعد عبارة «التوصيل مجاني» مجرد هامش لغوي يرافق إعلانًا تجاريًا أو يظهر باهتًا أسفل شاشة هاتف أو حاسوب. لقد تحولت هذه الجملة، شيئًا فشيئًا، إلى منظومة كاملة؛ إلى طريقة في النظر إلى الحياة وتنظيم الرغبات وإعادة تشكيل علاقتنا بالأشياء وبأنفسنا. وربما تكمن خطورتها في أنها تبدو بلا خطورة: خدمة بسيطة، إيماءة ودّ خفيفة من السوق نحو المستهلك. لكن خلف هذا اللطف الظاهر تختبئ عقيدة كاملة للراحة، عقيدة تُعيد تعريف ما يعنيه أن ترغب، وأن تتخذ قرارًا، وأن تتحرك.
إن الإنسان المعاصر، الذي أنهكته السرعة وضيق الزمن، ينجذب إلى أي وعد يخفف عنه أثقال يومه. وحين يقال له: “لا تتحرك، لا تُجهد نفسك، سنأتيك بكل شيء”، يشعر لحظةً بأنه سيد زمانه. لكن هذه اللحظة العابرة تُخفي وراءها انتقالًا بطيئًا من الفاعلية إلى الانفعال؛ ومن الإنسان الذي يذهب إلى الأشياء، إلى الإنسان الذي تنتقل الأشياء نحوه دون أن يطلب ذلك حقًا. من هنا تنبثق أسئلة هذه المقالة: هل «المجانية» هنا خدمة بريئة؟ أم أنها جزء من اقتصاد يعيد تشكيل سلوكنا ويمسّ جوهر علاقتنا بالعالم؟ هل تيسير الحياة نعمة، أم أنه يمنح السوق قدرة غير مسبوقة على إدارة رغباتنا، وتحويل حاجاتنا إلى مشروع تجاري طويل الأمد؟ هذه المقالة ليست عن التوصيل وحده، بل عن المنطق المكتمل الذي يجعل من الراحة أداة سلطة، ومن المجانية بوابةً إلى الإنسان الذي يُقاد دون أن يشعر. فقد تكون «المجانية» الثمن الأخف، لكن ما نؤديه مقابلها أثقل مما نتصور.
 
2. هندسة الرغبة: إلغاء المسافة وقتل سؤال الوعي
لم يعد مفهوم “الحاجة” في العصر الرقمي يشير إلى ذلك النقص الطبيعي الذي ينبع من الجسد أو من شروط العيش. إن الحاجة، كما تُمارَس اليوم، كيان مُصنّع، تُبنى آلياته في مختبرات السوق أكثر مما تتشكل في داخل الإنسان نفسه. لقد انتقل الاقتصاد من تلبية الرغبات إلى هندسة الرغبة، ومن ملاحقة الطلب إلى صياغة الطلب بطريقة تجعل المستهلك يتوهّم أن ما يريده ينبثق منه، بينما هو في الحقيقة نتاج شبكة معقدة من الإغراءات المحسوبة. فالجملة الدعائية «التوصيل مجاني» ليست امتيازًا للمستهلك، بل هي جزء من آلية دقيقة لإزالة آخر ما تبقى من مسافة بين الرغبة وموضوعها. فالمسافة، في الفلسفة القديمة، كانت شرطًا لظهور الرغبة، أما اليوم، فالسوق يعمل على إلغاء المسافة كي يُلغى معها سؤال الوعي: “هل هذه رغبتي حقًا؟” وأي رغبة تُلغي المسافة تُصبح، بالضرورة، رغبة موجَّهة.
 
بهذا المعنى، الحاجة الوهمية هي نتيجة تطابق مصطنع بين الذات وما يُعرض عليها. فالخوارزميات تراكم المعرفة الدقيقة بالعادات، وتنبني على أنماط سلوك قابلة للتوقع، لتقدم للإنسان ما يفترض أنه سيختاره، قبل أن يفكر في الاختيار نفسه. فتتحول الحاجة من تجربة داخلية إلى نبوءة تُصنع له؛ وتتحول الرغبة من حركة ذاتية إلى استجابة آلية لنداء خارجي محسوب. وما يبدو “رغبة شخصية” هو، في أغلب الأحيان، امتثال هادئ لنظام لا يحتاج إلى عنف كي يفرض منطقه؛ يكفيه أن يُقنع الفرد بأن ما يُلقَى أمامه يعبّر عنه، بينما هو، في العمق، يعبّر عن هندسة دقيقة للذات الاستهلاكية.
 
3. حين يتحول الجسد إلى متلقٍّ خالص
لا يُدرّب السوقُ الإنسانَ على الاستهلاك فحسب، بل يدربه أيضًا على كيفية الاستهلاك. فاقتصاد اليوم لا يكتفي بجعل الرغبة جاهزة، بل يعمل، بهدوء وببطء وبإصرار، على إعادة تشكيل علاقة الجسد بالعالم. إنه اقتصاد يعلّمنا، بطريقة غير معلنة، أن الحركة غير ضرورية، وأن الجهد فائض، وأن قيمة الحياة تكمن في ما يمكن الوصول إليه دون عناء. فالخدمة التي تأتيك إلى البيت، والحاجيات التي تُوضع عند الباب، والقرارات التي تُتخذ بضغطة زر واحدة، ليست مجرد وسائل للراحة، بل هي تقنيات يومية لإطفاء الميل الطبيعي إلى السعي. إن الجسد، حين يتوقف عن الذهاب نحو الأشياء، يبدأ تدريجيًا في فقدان جزء من حضوره في العالم. الحركة ليست مجرد فعل ميكانيكي؛ إنها طريقة للمعرفة، ووسيلة للشعور، وجسر بين الرغبة وموضوعها. وحين تُلغى الحركة، يُلغى معها شيء من الفهم الجسدي للواقع.
 
بهذا المعنى، “التوصيل مجاني” ليست خدمة، بل درسٌ يومي في اللامبادرة. فالمستهلك الذي يقبل بهذه الرفاهية الدائمة يُعاد تهيئته على مستوى العادة والذوق والقرار. إنه يتحول إلى كائن يتلقى أكثر مما يفعل، ينتظر أكثر مما يسعى، ويُسند إلى السوق تلك المهارات البسيطة التي كانت قبل سنوات قليلة جزءًا طبيعيًا من حياته، والتي هي البحث والمقارنة والاختيار والحركة. ومع تكرار هذه العملية، يتولد شكل من الاعتماد لا يقل قوة عن الاعتماد الجسدي نفسه. فالكسل هنا لا يظهر كخيار، بل كبنية جديدة للسلوك، تُعيد تعريف الحدّ الأدنى من الجهد الذي يقبل الإنسان ببذله. إنه كسلٌ بنيوي، لا يرتبط بالخمول الفردي بقدر ما يرتبط بالتصميم الشامل لاقتصاد يهدف إلى جعل المستهلك مستعدًا دائمًا، وغير متردد، وسريع الاستجابة، ضعيف المقاومة أمام أي عرض سهل. وهكذا يتحول الإنسان المعاصر إلى مستهلك “جاهز”، ونسخة هادئة من ذاته، نسخة لا تحتاج إلى أن تتحرك كي تحصل على ما تريد… لكنها، في المقابل، تخسر شيئًا من حيويتها كلما ازداد سهولة ما يصل إليها.
 
4. المجانية كصناعة للاعتماد طويل الأمد
ما يُقدّم على أنه “مجاني” ليس كذلك في العمق. فالسوق يعرف أن المكاسب الصغيرة اليوم تفتح أبوابًا واسعة لمكاسب أكبر غدًا. «التوصيل مجاني» ليس مجرد حيلة تسويقية لجذب الزبون مرة واحدة، بل استراتيجية طويلة المدى، إنها طريقة لبناء اعتماد دائم، وإعادة برمجة سلوك المستهلك بطريقة لا يُدركها هو نفسه. المجانيُّ يزيل مقاومة الإرادة: حيث لا جهد ولا حساب ولا تأمل. وبإزالة المقاومة، يُصبح القرار الاستهلاكي تلقائيًا أكثر من أي وقت مضى. ومع كل طلب مجاني، يعتاد الإنسان على أن السوق سيملأ الفراغ، سيصلح النقص، وسيُحقق الرغبة، دون أن يتحرك. وفي هذا الاعتماد الهادئ تكمن قوة السوق الحقيقية: إنه لا يشتري شيئًا منك اليوم، لكنه يشتري كل تصرفاتك المستقبلية.
 
تشبه الاستراتيجية هنا خطوة لعبة الشطرنج طويلة الأمد؛ كل حركة صغيرة تُسجّل، كل استجابة تُقوّى، وكل عادة تُنشأ. إن المستهلك، الذي يظن أنه يستفيد، هو في الواقع موضوع مشروع مستمر للسيطرة اللطيفة، السيطرة على عاداته وقراراته وتوقعاته. يصبح كل طلب مجاني حلقة في سلسلة تمتد بلا نهاية، سلسلة تجعل من الإنسان المعاصر مستعدًا دائمًا، سهل التوجيه، ضعيف المقاومة أمام أي إغراء. وبعبارة أبسط، ما يظنه الإنسان هدية مجانية، هو في الحقيقة استثمار السوق في ذاته، استثمار في إرادته وفي عاداته، وفي طريقة تفكيره. وكلما كررنا الانقياد وراء “المجان”، زاد الاعتماد، وازداد ضبط الذات ضمن شبكة غير مرئية من السيطرة الناعمة.
 
5. السلطة الناعمة: إغواء الإرادة والتحكم بالقرار
لم تعد السلطة، كما في الماضي، تصرخ أو تضرب أو تفرض؛ لقد تعلّمت الاقتصاديات الحديثة أن تغوي الإنسان بدل أن تُجبره، وأن تمنحه الراحة بدل أن تضعه تحت ضغط. وهكذا، تتحول الخدمة إلى أداة ضبط ناعمة، ويصبح الإغراء شكلًا من أشكال السلطة أكثر دقة وفاعلية من أي قيد مادي. جملة واحدة بسيطة مثل «التوصيل مجاني» تكفي لإلغاء التساؤل النقدي: “هل أريد هذا حقًا؟” يقتل الإغراء السؤال قبل أن يولد، ويحوّل القرار الفردي إلى استجابة متوقعة. لا تحتاج السلطة الناعمة إلى عنف؛ فكل ما تتطلبه هو تقديم الراحة والسرعة والسهولة، ليتحول السوق إلى مُعلّم هادئ يعلّم الإنسانية كيف تشتهي وكيف تسلم نفسها طواعية، ليصبح كل ما يُقدَّم مجانًا أداة تشكيل للوعي والسلوك، تجعل من المستهلك متلقٍّ مطيعٍ وجسدٍ قابل لإعادة التشكيل بوتيرة يومية دقيقة.
 
في هذا السياق، تصبح الحرية وهمًا متقن الصنع. فالإنسان يظن أنه حرّ، يختار ما يشاء، بينما الواقع أكثر دقةً. إن اختياراته مُهندَسة مسبقًا، ورغباته مبرمجة. تحدد له المنصات ما يمكن رؤيته، وتغلق أمامه ما لا تريده أن يختاره، ليصبح انتقاله بين الواجهات خطًّا مرسومًا بدقة يضمن بقاء السوق مؤثراً. وهكذا، تتحول الذات إلى نسخة متلقية من نفسها؛ رغبتها قابلة للتوقع، وقرارها مسبوق بالتحفيز. إن الحرية هنا لم تُلغَ تمامًا، لكنها تُعاد تعريفها ضمن حدود دقيقة: حرية تُشبه الحرية، لكنها تؤدي في النهاية إلى إعادة إنتاج الإنسان وفق منطق السوق، لا وفق منطق الذات المستقلة.
 
6 راحة بلا سكينة: مفارقة فائض الراحة
قد يبدو أن الراحة المطلقة، والخدمات التي تُقدّم “مجانًا”، تجعل حياتنا أسهل وأكثر رفاهية. لكن ما يربحه الإنسان بالسهولة غالبًا ما يفقده في العمق. إن الإنسان المعاصر، وهو يعتاد على أن كل شيء يأتيه بلا جهد، يجد نفسه يفقد مهاراته الأساسية. البحث والمقارنة والنقد، وحتى القدرة على اتخاذ قرارات بسيطة دون تدخل خارجي. الحياة اليومية تصبح أكثر سلاسة، لكن الوعي يصبح أثقل، والفراغ الداخلي أعمق.
 
إن الكسل البنيوي الذي تزرعه آليات السوق ليس مجرد غياب حركة جسدية، بل غياب السعي النفسي والفكري. قد يتحرك الجسد قليلًا، لكنه لم يعد يربط بين الرغبة والفعل. والوعي بدوره يتكيّف مع توقعات السوق أكثر من توقعاته الخاصة. وهكذا، تصبح الراحة ثمنًا يُدفع داخليًا. نفقد الإحساس بالجهد، وبفعل المبادرة و بالرضا الذي يولده الإنجاز. هناك تناقض قائم، كلما ازداد توفر الأشياء وسهولة الوصول إليها، ازداد شعور الإنسان بالقصور، وكأن شيءًا ما دائمًا بعيد، حتى وسط وفرة بلا حدود. هذه المفارقة تظهر أن السوق لا يبيع فقط المنتجات، بل يصنع مساحات فراغ معرفية وعاطفية، تجعل الإنسان دائم البحث عن الشيء الذي يملكه بالفعل، ويجعل الراحة نفسها مصدراً للقلق. والنتيجة، أن الإنسان المعاصر يعيش بين راحة مصطنعة وحاجة مستمرة. بين سرعة الوصول إلى كل شيء وبطء داخلي في فهم ذاته، بين شعور بالتحكم وظلال فقدان السيطرة. إنه كسل وعزلة واعية في قلب عصر فائض الراحة، حالة تكاد تصبح معيارًا للوجود البشري اليوم.
 
7. الخاتمة: المجاني واختبار صمود الذات
المجاني ليس مجانيًا. وما يصل إلينا بلا تكلفة يُنتزع منا في مكان آخر، تدريجيًا، وبهدوء تُسلب منا إرادتُنا وعاداتُنا وحركتُنا، ومعها إحساسُنا بقدرتنا على الاختيار. «التوصيل مجاني» ليست مجرد جملة إعلانية، بل مفتاح لفهم العصر؛ عصرٌ تتحوّل فيه الراحةُ إلى آلية ضبط، والرغبةُ إلى مشروعٍ مُتحكَّمٍ فيه، والاختيارُ إلى محاكاةٍ للاختيار. لا يحتاج السوق إلى القوة أو الصراخ. يكفيه أن يمنحنا الراحة، ويسرع استجابتنا، ويجعلنا ننسى السؤال البسيط: هل هذا ما أريد حقًا؟ وبينما نغوص في التلقي اليومي، نتخلى عن جزء من ذاتنا، جزء لا يمكن للمال أن يشتريه أو الإعلانات أن تقدمه، القدرة على السعي، وعلى المقاومة وعلى التجربة الحرة.
 
إن ما يُقدَّم لنا “مجانيًا” يعلّمنا درسًا قاسيًا: أن الراحة المطلقة هي سياج خفي للسيطرة، وأن الاستهلاك السهل هو بداية لفقدان الذات التدريجي. وبهذا، يصبح كل شيء متاحًا، لكنه متاح بثمن لا نراه إلا حين نفقد القدرة على التحرك نحوه أو بدونه. فالتحدي الذي يطرحه هذا العصر لا يكمن في الوصول إلى الأشياء، بل في استعادة الحرية الحقيقية في الرغبة والحركة والاختيار، حتى في عالم صُمم ليجعل كل شيء يأتيك إلى بابك، بلا جهد وبلا تأمل وبلا مقاومة. وهكذا، تنتهي الرحلة عند فهم أن “المجاني” هو اختبار يومي لصمود الإنسان أمام الراحة، وقياس دقيق لما يمكن أن يخسره الإنسان حين يُترك للراحة المطلقة، بلا يقظة وبلا وعي وبلا سؤال.