رضوان لمسودي يمثل قطاع التربية والتكوين ركيزة من بين الركائز الأساس لأي مشروع تنموي، وتشكل عملية إعداد وتأهيل الأطر التربوية القادرة على مواكبة التحولات التربوية والبيداغوجية حجر الزاوية في إصلاح المنظومة التربوية؛ فهي المدخل الرئيس للنهوض بجودة التعليم وتعزيز قدرته على أداء رسالته التربوية والتنموية، ولذلك تحتل المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين بعد إحداثها سنة 2011 مكانة أساسية في منظومة إعداد اطر التدريس، حيث أوكلت إليها مهمة التكوين الأساس للأطر التربوية في مختلف الأسلاك التعليمية. غير أن السنوات الأخيرة اتسمت بعدم استقرار في هندسة التكوين داخل هذه المراكز، إذ توالت التعديلات والمستجدات بشكل شبه سنوي، في غياب تقييم علمي ممنهج للتجارب السابقة. وقد ساهم هذا الوضع في تكريس صورة التكوين بوصفه حقلا للتجريب بدل تحقيق تراكم علمي ومعرفي في مجال التكوين والتأطير نتيجة غياب رؤية استراتيجية مستدامة.
في هذا السياق، يأتي مشروع القرار الجديد المنظم لسلك تأهيل أطر التدريس، حاملا بين طياته وعودا بإعادة تنظيم مسالك التكوين، ومضامينه النظرية والتطبيقية، بالإضافة إلى كيفيات التقييم لنيل شهادات التأهيل التربوي لمختلف الأسلاك التعليمية، من خلال وضع إطار قانوني ومنهجي موحد يعيد تعريف مسارات التكوين، مستندا في ذلك إلى المرجعيات القانونية الجديدة.
إلا أن السؤال المركزي الذي يطرح نفسه هو: إلى أي حد يمكن لهذا المشروع أن يحقق قطيعة مع مظاهر الارتباك السابقة، ويؤسس لهندسة تكوين أكثر استقرارا وفعالية؟
وبناء عليه، يسعى هذا المقال إلى مناقشة هذا المشروع، من خلال تسليط الضوء على بعض مضامينه الأساس، وتحليل نقاط قوته التي تهدف إلى رفع مستوى المهنية حسب نص المشروع، وكذلك الوقوف عند بعض الإشكالات والتحديات التي قد تواجه عملية تنزيله على أرض الواقع، سعيا لتقديم رؤية متوازنة تسهم في إثراء النقاش حول مستقبل تكوين الأطر التربوية بالمغرب.
مكامن القوة من حيث الشكل:
يلاحظ أن مشروع القرار المنظم لسلك تكوين أطر التدريس يتضمن جملة من العناصر التي يمكن عدها مكامن قوة على المستوى الشكلي والتنظيمي. أولها الطابع الشمولي للتكوين، إذ يجمع بين الأبعاد النظرية والتطبيقية والعملية، إضافة إلى الوحدات المشتركة التي تهم علوم التربية، والتربية الدامجة، ومشروع المؤسسة وغيرها، وهو محاولة لتحقيق التوازن بين مختلف مكونات التكوين النظرية والممارسة العملية.
ثانيا، يشير المشروع بوضوح الى مسالك التكوين بشكل يضمن تخصصا دقيقا لكل سلك عكس ما كان معمولا به في مرحلة سابقة عندما كان يتم دمج تكوين أساتذة الثانوي الإعدادي وأساتذة الثانوي التأهيلي في سلك واحد، هذا التعديل يتوافق مع مطلب ضرورة تمايز البرامج التكوينية حسب المستويات التعليمية الذي كان يطالب به الأساتذة المكونون. كما يحدد المشروع هيكلة البرنامج التكويني الذي يتضمن وحدات متفرعة تغطي التخصص، البيداغوجيا، والمهارات المستعرضة. ومنه، يمكن القول إن هناك سعيا نحو تكوين يضمن انسجاما على مستوى المخرجات من خلال توحيد برنامج التكوين بين مختلف المراكز مع منح مرونة جد محدودة لمجالس المراكز من أجل تكييف جزئي لبرنامج التكوين، وذلك بالاقتصار على إعادة توزيع الوحدات وإمكانية إضافة وحدات أخرى. كما يسجل إدراج وحدات جديدة؛ مثل التعلم الرقمي والتربية الدامجة يبدو أن غايتها تروم تمكين الطالب من الاطلاع على آخر المستجدات التربوية، ومواكبة التطورات المرتبطة بالشأن التعليمي.
تحديات جوهرية تواجه مشروع التكوين بسلك تأهيل أطر التدريس
مدة التكوين والتداخل بين الوحدات:
رغم الطبيعة الشاملة لهيكلة المشروع، فإنه يثير مجموعة من التساؤلات حول قدرته على تحقيق الأهداف المرجوة، هذه التساؤلات تمس الجوهر وعلى رأسها محدودية المدة الزمنية المخصصة للتكوين التي لا تتجاوز سنة دراسية واحدة خصوصا في ظل تأخر انطلاق الموسم التكويني، الذي في أحسن الأحوال ينطلق نهاية شهر نونبر، وهي مدة غير كافية لاكتساب الكفايات المهنية المعقدة التي يتطلبها التدريس في ظل المناهج الحديثة، ولا تسمح بالتمكن العميق من المضامين العلمية والبيداغوجية المتنوعة. علما أن مختلف الأدبيات التربوية تعتبر أن التكوين الفعال للمدرسين عملية ممتدة في الزمان، وتجمع بين الدراسة النظرية والممارسة الميدانية على مدى سنتين على الأقل.
كما يظهر أن المشروع يقدم برنامجا يعاني من كثافة الوحدات الدراسية (24 وحدة)، مما يجعله مكثفا ومعقدا في الآن ذاته. ولعل ذلك سيؤدي إلى تداخل في الاختصاصات نتيجة صعوبة الفصل بين مضامين الوحدات؛ فعلى سبيل المثال وحدة ديداكتيك التخصص قد تتداخل مع وحدات أخرى مثل تخطيط التعلمات وتدبير التعلمات اللتين تصنفان ضمن الوحدات التطبيقية. وسينتج عن كثرة الوحدات أيضا تعدد على مستوى المتدخلين في عملية التدريس، مما قد يصعب مهمة التنسيق بينهم في ظل تعدد الوحدات، مع ما يطرح ذلك من مشكلات تتعلق بضعف التجانس خلال التكوين، وكذا الضغط الكبير على المكونين والطلبة على حد سواء، بالنظر إلى تأثير ذلك في جودة التكوين وما يتطلبه من استحضار التكامل بين المعارف والمهارات المبرمجة على مستوى هذه الوحدات.
ومنه، يمكن أن نطرح سؤالا جوهريا: كيف يمكن التوفيق بين كثافة الوحدات وتداخلها في ظل قصر المدة الزمنية للتكوين؟ ألا يؤثر غياب هذا التوفيق في فعالية التكوين وجودته؟
اختيار الوحدات التخصصية:
ينص المشروع على أنه يتم تحديد الوحدات التخصصية، المدرجة في إطار التكوين الأساس، وتدريسها للطلبة للرفع من مستوى تملكهم للمعارف الأساس المتعلقة بمجال تخصصهم بناء على نتائج التقويم التشخيصي. غير أن الملاحظ أنه لم تتم الإشارة إلى المعايير والإجراءات الكفيلة بتفعيل هذه العملية.
إن هذا الغموض في تدبير الوحدات التخصصية يثير إشكالات بيداغوجية وتنظيمية، يمكن أن نحدد بعضا منها في:
- قد لا يعكس التقويم التشخيصي بدقة الاحتياجات الحقيقية للطلبة، خاصة إذا كان يقتصر على الاختبارات النظرية العامة، كما أن هذا النوع من التقويم يهمل جوانب مهمة مثل القدرات التطبيقية والميولات الشخصية التي يصعب قياسها باختبار كتابي. ومنه، قد لا تتمكن الوحدات المختارة بعد التقويم التشخيصي من تلبية كافة احتياجات الطلبة، مما يؤثر في جودة التكوين بالمراكز؛.
- لم يحدد المشروع المعايير الكمية أو النوعية التي ستعتمد لترجمة نتائج التقويم التشخيصي إلى وحدات محددة، خاصة في حالة وجود تباين كبير في احتياجات الطلبة؛ فعلى سبيل المثال، حين يضم الفوج نفسه من الطلبة أفرادا تختلف احتياجاتهم في الوحدات التخصصية، فإن الاقتصار على برمجة وحدة واحدة لفئة بعينها ينتج عنها واقع غير متكافئ داخل الفوج نفسه. فبينما يجد بعض الطلبة ما يلبي احتياجاتهم المعرفية، تُهْمَل احتياجات الآخرين، وهو ما يخل بمبدإ العدالة التعليمية؛
- لم يحدد المشروع الجهة التي ستتخذ قرار تحديد الوحدات التخصصية (هل هي لجنة بيداغوجية؟ أم الأستاذ المكون؟ أم فريق التكوين؟ أم مجلس المؤسسة؟)؛
- إن اعتماد هذه الصيغة سيؤدي إلى تفاوتات كبيرة بين المراكز الجهوية، مما سيضعف مبدأ توحيد التكوين على المستوى الوطني. كما أن الاقتصار على أربع وحدات فقط، استنادا إلى نتائج تشخيصية أولية، سيحرم الطلبة من التعمق في معارف أساس داخل تخصصاتهم، خصوصا في المواد العلمية والتقنية التي تتطلب تراكما معرفيا وتطبيقيا (أشغال تطبيقية) على مدى زمني أطول؛.
- إن هذه الصيغة تتعارض مع مبد إ في الأنظمة التعليمية، إذ إنه من المفروض تحديد الوحدات التخصصية بناء على احتياجات السلك التعليمي الذي يتم إعداد الطالب لتدريسه، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف الحاجيات المعرفية للطلبة الوافدين على التكوين، وليس عبر اختيار شبه عشوائي.
آلية التقييم خلال التكوين:
يلاحظ من خلال مشروع القرار الحضور القوي لمنطق الامتحانات الكتابية بوصفها آلية للتقييم، فالمسار التكويني للطالب يبتدئ بالتقويم التشخيصي، واختبارات مرحلية، وتقويمات إجمالية، بالإضافة إلى امتحان تخرج وطني موحد مُنح وزن 60 في المائة، وهي نسبة مرتفعة جدا. هذه الهيمنة ستدفع الطالب إلى تغليب منطق الاستعداد للاختبارات بوصفها غاية في حد ذاتها وليست ذات قصد يروم اكتساب المهارات وبناء الكفايات المهنية خلال عملية التكوين الأساس بالمركز. ولعل ذلك يمثل تحديا آخر يُطرح على مشروع القرار؛ يتعلق الأمر بالتناقض بين تبني المقاربة بالكفايات بوصفها خلفية بيداغوجية في العملية التكوينية، وإقرار آليات للتقييم تعتمد الامتحانات الكتابية بشكل كبير عوض تقييم مدى تطور الأداء المهني للطالب خلال المسار التكويني، وبشكل أساس عبر الأنشطة العملية والميدانية، وهو ما يمكن من تقييم الكفايات المهنية للطالب بدل جعلها تعبيرات وجملا كتابية في ورقة الامتحان.
إن مشروع القرار يدفعنا لطرح سؤال محوري حول حدود إمكانية آلية التقييم المقترحة من قياس قدرة الطالب على حل المشكلات التربوية داخل الفصل الدراسي، وقدرته على التواصل الفعال مع التلاميذ، أم أن هذا التقييم لا يخرج عن قصدية قياس مدى تملك هذا الطالب للمعارف النظرية لا غير؟
التكوين الذاتي المؤطر:
يلاحظ أن مشروع القرار أرسى التكوين الذاتي المؤطر بوصفه آلية لدعم المكتسبات المعرفية التخصصية للطلبة. هذا النوع من التكوين يتطلب تخصيص وقت ومجهود إضافيين للبحث والاطلاع وتعميق المكتسبات بشكل مستقل، إلا أن كثرة الوحدات الإلزامية وبرمجة التداريب الميدانية ومتطلبات الإعداد للامتحانات لن تترك للطالب وقت فراغ كاف لممارسة هذا النوع من التعلم المستقل. بالإضافة إلى ذلك، يجب الإشارة إلى أن التكوين الجيد والفعال لا يقتصر على الأنشطة الصفية بل يتطلب أنشطة ثقافية وبيداغوجية داعمة، فضلا عن مبادرات ذاتية موازية تمليها حاجات الطلبة لصقل مواهبهم وتسهم في بناء شخصيتهم المهنية والاجتماعية.
وعليه، نتساءل: كيف يمكن تفادي تحويل التكوين الذاتي المؤطر من نشاط تكويني أساس مُسهم في تعميق المعرفة التخصصية إلى عبء إضافي على الطالب؟
إن الملاحظات التي أثيرت حول مشروع القرار ليست سوى جزء من تساؤلات أوسع تهم منظومة تكوين المدرسين. وليست الغاية من طرح هذه الملاحظات توجيه النقد في حد ذاته، بل هي مخاوف متعلقة بجودة التكوين، وهي كذلك دعوة إلى جعل منظومة التكوين موضوعا للنقاش العمومي الجاد والمسؤول بحكم ارتباطه بمستقبل المدرسة المغربية. فالإصلاح الناجع لا يبنى بالتنظيم الإداري وحده، بل بالتفكير الجماعي، والحوار المفتوح، والإرادة المشتركة لتجويد تكوين المدرسين بما يخدم المتعلم، والمدرسة المغربية بشكل عام.
إن مشروع القرار، على أهميته التنظيمية، لا يمكن وصفه بمبادرة إصلاح جدية لمنظومة التكوين، لأن تجويد هذه المنظومة، كما سبقت الإشارة إليه، يتطلب مقاربة شاملة تتجاوز مجرد صياغة وتنزيل مشاريع قرارات تختزل الإصلاح في إعادة ترتيب المسالك أو إعادة ترتيب وتعديل الوحدات أو تعديل الغلاف الزمني، أو تغيير نظام الامتحانات، بل يتطلب ذلك بالضرورة فتح ورش حقيقي يتبنى منهجية تشاركية وانخراطا فعليا لجميع الفاعلين بالميدان: أطر المراكز وأساتذة الجامعات وأطر مؤسسات التداريب الميدانية والمجتمع المدني.
إن إعطاء هؤلاء الفاعلين مساحة أكبر للتعبير والاقتراح هو الضمانة الأساس لكي تكون المقترحات نابعة من الممارسة اليومية الميدانية، ومنسجمة ومعبرة عن الواقع الحقيقي للمدرسة المغربية. كما أن ضمان استدامة أي مشروع إصلاح يقتضي وضع مؤشرات للمتابعة والتقييم، بما يسمح بتعديل الاختيارات وفق دراسات ميدانية علمية لا وفق اجتهادات ظرفية
على وجه الإجمال، تبقى إعادة هيكلة مؤسسات التكوين، عبر دمج المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين والمدارس العليا للتربية والتكوين، بمثابة خيار استراتيجي لضمان التكامل والانسجام بين الجوانب الأكاديمية والتربوية والمهنية خلال مسيرة تكوين الأطر التعليمية، كما أن إصلاح منظومة التربية والتكوين لا يمكن أن ينجح بمعزل عن الورش الوطني لإصلاح التعليم بالمغرب، ما دام أن الطالب الأستاذ ما هو إلا نتاج للمدرسة المغربية وإطارها المستقبلي في آن واحد.
رضوان لمسودي؛ أستاذ العلوم الفيزيائية بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين (الفرع الإقليمي الجديدة)