غلاف كتاب" أنا وانا وما بينها.. رسائل بين عبد الله المتقي ومحمد بوحوش" تقطن بداية الرسالة في الصفحة السابعة بعد السبعين من كتاب الرسائل بين عبد الله المتقي والتونسي محمد بوحوش في طبعته الأولى، والصادر عن مكتبة سلمى الثقافية بتطوان سنة 2025. وهي موجهة إلى محمد بوحوش باعتباره صديقا، لكنها تتخذ منحى تأمليًا نظريًا، حيث يناقش المتقي طبيعة الشعر ومهمة الشاعر، ويعبّر عن موقف وجودي من الإبداع والحرية. إنها كتابة في الشعر بالشعر، يزاوج فيها بين الحس الفلسفي والنبرة الوجدانية. يبدأ المتقي بالاعتراض على فكرة "البيانات الشعرية" أي تلك النصوص التي يصدرها الشعراء مجتمعين لتحديد ما يجب أن يكون عليه الشعر. يرى أن هذه البيانات تحوّل الشعراء إلى جوقة واحدة تعزف اللحن نفسه، بينما الشعر في جوهره عزف منفرد. القصيدة عزف منفرد، وليس من الجدارة في شيء أن نحوّلها إلى قوالب جماعية لقالب واحد في هذا القول، يعلن المتقي رفضه لأي سلطة جماعية تنظيرية على الشعر، مؤكدًا أن الإبداع لا يولد من الإجماع، بل من الاختلاف الفردي والبحث الذاتي .يؤكد المتقي أن الشعر لا يقوم على الصراخ والادعاء، بل على الإنصات العميق:ما نحتاجه هو أن نكتب شعرًا يشبه أحلامنا، لا أن نحشر أحلامنا في قوالب شعرية… الشاعر كائن من الإصغاء لا من الضجيج الإصغاء هنا ليس فقط إلى العالم الخارجي، بل إلى الصوت الداخلي للشاعر، إلى الذات وهي تتحاور مع وجودها. فالشعر عند المتقي نوع من الوعي الهادئ بالذات والعالم، لا معركة ولا بطولة، بل " قنطرة للعبور نحو المعنى". يقدّم المتقي تمييزًا لافتًا بين من يكتب بمعاناة الكتابة، ومن يكتب بمعنى القصيدة.
الأول شاعر مثقل بالهاجس الخارجي (الشهرة، الاعتراف، الجوائز)، بينما الثاني شاعر حرّ، يرى في الكتابة تجربة إنسانية وجودية، لا مجرّد وسيلة للظهور.الشاعر الذي يكتب بمعاناة الكتابة ينتظر الاعتراف، أما الذي يكتب بمعنى القصيدة فهو الذي يضع العالم على الطاولة ويحاور الوجود بشغف عميق “هنا يعيد المتقي الاعتبار إلى البعد الأنطولوجي للشعر، بوصفه فعل معرفة ووعي، لا مجرّد إنتاج لغوي أو شكلي.
إن الحرية هي الكلمة المفتاح في هذه الرسالة. يدعو المتقي إلى تحرير القصيدة من القوالب الجاهزة، سواء في الصورة أو اللغة أو الرؤية. على الشاعر أن يكون حرًّا في لغته، في صوره، في اختياره لمفرداته، في نظرته إلى الأشياء" فالشعر ليس اتفاقًا جماعيًا على شكل واحد، بل اختلاف جميل على معنى واحد هو الإنسان. بهذا يربط المتقي بين الحرية الجمالية والعمق الإنساني، معتبرًا أن الشعر الأصيل هو الذي يعبر عن الإنسان في تنوعه، لا في تكراره.
وتنتهي الرسالة على نغمة وجدانية هادئة: "أكتب إليك يا صديقي محمد، أشعر أنني أبحر في هذا المعنى، وأفكر فيكم جميعًا، الشعراء الذين يكتبون لأنهم يحبون الحياة، لا لأنهم يريدون الفوز بالجوائز " الشعر هنا يتحول إلى احتفاء بالوجود، إلى شكل من أشكال المقاومة الهادئة ضد العبث واللاجدوى، وإلى إيمان بالحياة عبر الكلمة.
إن رسالة "بحر الناقوس" هي في جوهرها مانيفستو فردي للحرية الشعرية. يعلن فيها عبد الله المتقي أن الشعر ليس تنظيرًا، ولا بيانات، ولا صراخًا جماعيًا، بل تجربة ذاتية متفردة تنبع من الإصغاء، من الشغف، ومن الإحساس العميق بالإنسان. إنها دعوة لأن يعود الشعر إلى جوهره الأول: صوت الذات وهي تكتشف العالم، لا قالبًا يعيد تكرار ما قيل.
تتميز لغة عبد الله المتقي في هذه الرسالة بشفافية وبساطة ظاهريتين، لكنها مشحونة بدلالات فلسفية وشعرية. إنه يكتب بأسلوب قريب من الكلام اليومي، لكنه يصوغ فيه إيقاعًا خافتًا وحكمة مضيئة. فهو لا يكثر من استخدام الغموض أو الزخرفة، بل يراهن بشكل كبير على الصفاء والتجريد الهادئين
فالقصيدة ليست معركة، بل هي قنطرة للعبور نحو المعنى و"الشاعر كائن من الإصغاء لا من الضجيج" إن هذه اللغة التي تميل إلى التوازن والاختزال تمنح النص هيبة التأمل، وتكشف عن كاتب يكتب ليقول شيئًا حقيقيًا، لا ليبهر حتى وإن كان من حقه أن يبهر. وعلى الرغم من أن النص نثري، إلا أنه يحمل إيقاعًا شعريًا واضحًا، يتولد من: تكرار هادئ لبعض المفردات: الشعر ، الشاعر ، القصيدة ، المعنى ، الإصغاء ، الحرية؛ والتوازي التركيبي بين الجمل كما يبدو واضحا عندما يقول: "أن نكتب الشعر بمعناه لا بمعاناة الكتابة" أو عندما يعلن أنه يكتب شعرا يشبه أحلامه بدل أن يحشرها في قوالب شعرية"أن نكتب شعرًا يشبه أحلامنا، لا أن نحشر أحلامنا في قوالب شعرية" إن هذا التوازي يخلق موسيقى داخلية تشبه خفقًا متزنًا، يعكس هدوء الموقف وعمق الرؤية. فإيقاع المتقي ليس صاخبًا، بل هو إيقاع الفكرة وهي تتنفس. أما من حيث صوره الشعرية ففي هذا النص تتميز بأنها فكرية و رمزية أكثر منها وصفية. فالكاتب لا يرسم صورًا بصرية، بل يصوغ استعارات فكرية تعبّر عن رؤيته للشعر: القصيدة قنطرة للعبور نحو المعنى هنا تشبيه يربط بين الكتابة والسفر الداخلي نحو الفهم. والشاعر كائن من الإصغاء أما هذه فاستعارة وجودية تحوّل الشاعر إلى أداة حسّ روحي. أما عبارة البيانات الشعرية جوقة تعزف اللحن نفسه فهي صورة موسيقية تعبّر عن فقدان التفرّد إن هذه الصور تمنح النص كثافة رمزية، وتجعل المعنى يتحرك بين الفكرة والشعور في آن. يتميز نص صديقنا عبد الله متقي كله ينبض بـنغمة هادئة تأملية، بعيدة عن الانفعال أو الخطابة. فصوت المتقي هنا صوت الحكيم الهادئ الذي يتحدث من تجربة طويلة مع الكتابة والحياة، من موقع المكتوي يلظى الحياة لا من موقع الواعظ إنها تبدو رسالة أقرب إلى تأمل شخصي في جوهر الشعر، حيث تمتزج فيها المعرفة بالحس الإنساني.
حتى في نهاية النص، حين يقول:أكتب إليك يا صديقي محمد، أشعر أنني أبحر في هذا المعنى… الشعراء الذين يكتبون لأنهم يحبون الحياة، لا لأنهم يريدون الفوز بالجوائز،
تتحول النغمة من التنظير إلى الاعتراف الوجداني، في حركة جميلة من الفكر إلى الوجدان. أما البنية الحوارية للرسالة فتُضفي على النص دفئًا إنسانيًا، فالمتقي لا يخاطب جمهورًا، بل صديقًا محددًا.لعل هذه الصيغة تمنحه حرية القول وصدق النبرة.إن الخطاب الشخصي "يا صديقي محمد" يتحوّل إلى خطاب إنساني عام، يشمل كل شاعر حقيقي يسعى إلى المعنى.
بهذا، يخلق المتقي توازناً بين الخصوصية والكونية، بين الحميمي والتأملي. بقي أن اشير إلى أن هذا النص بالذات يتحرك في مساحة دقيقة بين الفكر والشعر؛ فهو تأمل فلسفي بلغة شعرية. فهو لا يشرح المفاهيم بشكل مباشر، بل يجعلها تتجسد في صورة أو جملة مجازية. و لعمري هذا ما يجعل الكتابة عند المتقي ذات طبيعة هجينة، بالمعنى العميق للهجين كجوهر للإنسان، في زمن اصبح فيه خطاب الاصالة رغم طابعه العنصري هو الأكثر طلبا وانتشارا معا. هجينة بمعنى أنها ليست تنظيرًا نقديًا، وليست شعرًا صرفًا، بل نثر شعري فلسفي.هي مزيج ممتع بين عالمين ومجالين لا يفترقان الا ليجتمعا. الفلسفة والشعر.
يمكن القول إن الرسالة كتبت بلغة "القصيدة الفكرية" التي توازن بين الوضوح والعمق، العقل والعاطفة، الفكر والإيقاع.
إن "بحر الناقوس" ليست مجرد رسالة بين صديقين، بل نصٌّ عن جوهر الشعر كحالة وجودية، وعن الكتابة كرحلة في الإصغاء والمعنى، يذكّرنا بأن الشعر الحقيقي لا يُكتب ليثير الضجيج، بل ليُصغي إلى الحياة ويعيدها نغمةً جديدة.