منذ صدور القرار 2797 لمجلس الأمن الدولي، دخلت قضية الصحراء المغربية مرحلة جديدة وفاصلة في مسارها. فالعالم بات ينظر إلى المبادرة المغربية للحكم الذاتي باعتبارها الإطار الواقعي للحل، وهو ما أكّده الخطاب الملكي السامي الأخير حين رسم معالم المرحلة المقبلة، ثم رسخته المقاربة التشاورية التي عُقدت مع الأحزاب السياسية وآخرين ، دُعيت فيه الأحزاب لتقديم تصوراتها قبل استئناف المفاوضات مع الأطراف الأخرى. ويتضح من هذا التوجّه أن المغرب يستعد، بوعي وتدرّج، لتفعيل الحكم الذاتي ليس بوصفه نصًّا قانونيًا لاتفاق سياسي فقط، بل باعتباره مشروعًا وطنيًا كامل الدلالة.
وقد يعتقد البعض أن الحديث منذ الآن عن النخب، وآليات التدبير، وكيفية إدماج الساكنة، حديث مبكر. غير أن التجارب الكبرى تُظهر أن اللحظات المؤسسة تُبنى قبل وقوعها، وأن نجاح التحولات التاريخية يقتضي تهيئة نفسية ومؤسساتية وسياسية تسبق التنفيذ. فالانتظار ليس حكمة في مثل هذه المنعطفات. أما التفكير الاستباقي فهو الشرط الأول لبلوغ الغاية.
في خضم هذه الدينامية، برزت بعض النقاشات الجانبية والهامشية على المستوى الجهوي التي رغم أنها لا تمس الاتجاه الوطني العام، لكنها تُظهر الحاجة الملحة إلى ضرورة الارتقاء بالنقاش العمومي .فالمغرب اليوم أمام لحظة أكبر من ردود الفعل، وأعمق من الصيحات القبلية .فالحكم الذاتي ليس مجالًا للتنازع اللفظي، بل ورشة لبناء مستقبل مشترك، تحتاج إلى هدوء واتساع نظر ونَفَس دولة.
ولا ينبغي أن نغفل أن الأمر يتجاوز مجرد إعادة توزيع الصلاحيات. إنه إعادة صياغة العلاقة بين ساكنة عاشت في كنف المؤسسات الوطنية، وأسهمت في انتخاب ممثليها وتدبير شؤونها، وبين ساكنة أخرى عاشت في المخيمات، تحمل ذاكرة وتجربة مختلفة، وسيعود من يعود منها للمشاركة في البناء. فالتحدي هنا ليس اداريا صرفا ، بل هو ترميم للثقة بين تجربتين، وبناء وعي جديد بالانتماء، يسمح بطيّ صفحة الماضي دون محوها، ويمنح للمستقبل حقه من الأمل والاحترام.
وفي هذا المجال، تبرز بوضوح تجربة ألمانيا الموحّدة -مع وجود الفارق -فبعد سقوط جدار برلين ،كان على ألمانيا الغربية والشرقية أن تدمجا مجتمعين فقد عاشا نصف قرن تحت وضعيتين متعارضين. ومع ذلك، لم تُبن الوحدة لا على الإقصاء ولا الهيمنة، بل على المرافقة وإعادة البناء والاعتراف بالاختلاف دون تضخيمه. أُعيد تأهيل الشرق ، وأُعيد بناء الإدارة، وفتحت الأبواب أمام النخب للمشاركة في المؤسسات الموحّدة بعد برامج تكوين وتأهيل. وقد أدرك الألمان أن اندماج البشر أسبق من اندماج النصوص، وأن الوحدة تُبنى بالثقة.
ان هذه التجربة تُذكّرنا بأن المرحلة المقبلة في المغرب ليست توزيعًا للأدوار بين “من كان هنا” و“من كان هناك”، بل هي تأسيس لنموذج من المفروض ان تكون فيه المشاركة مشروطة بـ الأهلية والكفاءة، والانتماء للوطن الكبير لا غير .
وبالتالي فمن الطبيعي، والحالة هذه، أن تُطور الأحزاب السياسية رؤيتها. فهي ليست مطالبة في هذه الاستشارة بتسطير لائحة طلبات موجهة للدولة فقط بقدر ما هي مطالبة كذلك بأن تحدد مسؤوليتها: كيف ستفتح بنياتها أمام طاقات جديدة؟ كيف ستعيد بناء أدوات التأطير؟ كيف ستصنع ثقة سياسية حقيقية؟ وكيف ستتكيف مع نموذج جهوي جديد يحتاج إلى نخب جديدة ونَفَس سياسي جديد؟
إن الحكم الذاتي لن يدار بخطاب المقارنات أو الحسابات الصغيرة، بل بمن يملك القدرة على خدمة الساكنة، وبمن يعتبر الجهة فضاءً للعمل المشترك لا مجالًا لتنازع الشرعيات. فالسيادة اليوم ليست مجرد حماية للتراب، بل بناء للثقة. كما ان الانتماء ليس ذاكرة فقط ،بل مسؤولية مشتركة.
ولعل ما قاله غرامشي يختصر روح اللحظة: “إن كل تنظيم جديد يولَد معه أزمة في الوعي”. والوعي الذي نحتاجه اليوم هو الإدراك ان بلادنا تجتاز مرحلة تتطلّب قدرة جماعية على تجاوز الانفعال لبناء مشروع وطني يتّسع لكل من سيشارك فيه بكفاءة ومسؤولية ووعي ، وليس بمنطق (أمولا نوبة )على حد تعبير صاحب (دفنا الماضي )في ركنه اليومي (مع الشعب )بجريد العلم الغراء .