سعيد العزوزي: لن نسمح لِمُولْ الْحُوتْ بإهانة رجل التعليم في زمن التفاهة

سعيد العزوزي: لن نسمح لِمُولْ الْحُوتْ بإهانة رجل التعليم في زمن التفاهة سعيد العزوزي
في زمن اختل فيه ميزان القيم أمام ضجيج المنصات الرقمية، خرج إلى السّاحة بائع السمك "مٌولْ الْحُوتْ" ، انتفخت حوله فقاعة شهرة عابرة، فظن أن متابعيه يمنحونه سلطة، وأن المال السريع يضفي عليه موقعا اجتماعيا لا يستحقه، غير أن لحظة حقيقته الجوفاء ظهرت حين تجرأ على أستاذه السابق، مستهزئا، متعاليا، متصورا أن بريق الأضواء يستطيع إلغاء ذاكرة المدرسة والمدرس، ومحو تاريخ من علّمه يوما الحرف والخلق ورسم في ذاكرته أولى خيوط المعرفة.
 
 هنا لم تعد الواقعة مجرد خطأ فردي، بل أصبحت علامة على خلل ثقافي واجتماعي خطير، يكشف مدى التدهور القيمي الذي يتهدد المجتمع حين يفتح المجال أمام التفاهة لتصبح معيارا للنجاح والتوفيق والإعتراف. لقد صدق الأستاذ حين وصف هذا التلميذ بالفاشل؛ ليس لأن الفشل قدرٌ مطلق، بل لأن الطبع يغلب التطبع والعقل الذي يستهزئ بالمعرفة هو عقل قطع صلته بمصادر التكوين والهوية الحقيقية. 
 
إن من يطعن في أستاذه إنما يطعن في النبع الذي شرب منه، وفي الجذور التي كونت وعيه الأول. وهو بذلك لا يفضح الأستاذ بل يفضح نفسه من خلال هشاشته وفراغه وانخداع تباهيه بوهم الشهرة.
 إن من لا يحترم المعلم لا يمكن أن يحترم المجتمع ولا يمكن أن يدرك قيمة المستقبل.
 
كل التضامن هنا مع الأستاذ، ومع كل رجال التعليم الذين لطالما مثلوا الضمير الأخلاقي لهذا الوطن. فهم ليسوا موظفين عابرين. إنهم صناع الوعي وبناة الأمل وحملة القيم. هم الذين وقفوا في الصفوف الأمامية يدافعون عن الاستقلال بالكلمة والتعبئة، وكانوا خزّان الحركة الوطنية يوم لم يكن في البلاد سوى المدرسة والكتاب والضمير الحي. هم الذين صنعوا مغرب الاستقلال بالنعال والصبر وبنكران الذات، سلاحهم الوعي و التشبث بقيم المواطنة والوطنية. فكيف يقبل اليوم أمام مرأى ومسمع ملايين المغاربة أن يصبح رجل التعليم موضوع سخرية ممن لم يصنع شيئا سوى ضجيج على شاشة هاتف؟
 
رجال التعليم هم نقطة البداية لأي مشروع تنموي وهم حجر الزاوية في بناء الإنسان وفي ترسيخ قيم المواطنة والعدل والمساواة حيث لا تنمية بشرية دون معلم، ولا قيم دون مدرسة، ولا مستقبل دون احترام رموز العلم و التربية. ولولا هؤلاء الجنود الصامتين لانحدر المجتمع نحو الجهل ولتضخم الفراغ الذي يفرز لنا مثل هذه "الفقاعات البشرية" التي تلمع بسرعة وتتبخر أسرع.
 
إن ما وقع ليس حادثا منعزلا، بل هو نتاج سياق أعمق: سياق تراجع فيه المنسوب الأخلاقي والثقافي للمجتمع المغربي وسياق صعود التفاهة إلى منصة "الترند"، وغياب النقد التربوي العميق الذي يفصل بين النجاح الحقيقي وبين ضجيج الشهرة. 
 
لقد أصبحنا نعيش واقعا يمنح فيه الإعتراف الإجتماعي لمن يثير الجدل لا لمن يبني الوعي. واقعا تتراجع فيه القدوة ويستبدل بها مؤثر لا يحمل سوى لغة سطحية وثقافة آنية.
 
إن علم الاجتماع يعلمنا أن قيمة المعلم ليست شأنا فرديا بقدر ما هي ركيزة أساسية في بنية المجتمع، واحترام الأستاذ يعني احترام المعرفة، واحترام مستقبل الأجيال. أما التطاول على الأستاذ فليس موقفا شخصيا، إنه فعل يهدم أساسا من أسس النظام التربوي والأخلاقي. وما لم نعد الاعتبار لهؤلاء الرواد، سنظل ننتج نماذج بلا جذور، فارغة، متعالية، لا تدرك معنى الجهد ولا قيمة العلم.
 
إننا نعيش لحظة يجب أن نقول فيها بوضوح: كفى من تمكين التفاهة وكفى من السماح لمن لا يحمل أي قيمة أن يحتل واجهة النقاش العام والمغرب لن يبنى بالضجيج ولا بشهرة الصدفة، ولا بمال بلا رؤية. المغرب يبنى برجال ونساء التعليم، بحكمتهم وصبرهم وفعلهم اليومي الهادئ والعميق.
 
التضامن الكامل مع رجل التعليم، ومع المدرسة العمومية، ومع كل من جعل من حياته رسالة لا مهنة.
ولن نسمح بأن تتحول التفاهة إلى قاعدة، أو أن يصبح الجهل سلطة
فإذا سطع نجم بلا معنى فإن تلك النجوم - مهما أضاءت لحظة - مصيرها أن تنطفئ، ويبقى المعلم هو النور الذي لا ينطفئ.