الحسين بكار السباعي: المشاورات الحزبية و إستشراف هندسة سياسية جديدة بالأقاليم الجنوبية لتنزيل الحكم الذاتي

الحسين بكار السباعي: المشاورات الحزبية و إستشراف هندسة سياسية جديدة بالأقاليم الجنوبية لتنزيل الحكم الذاتي الحسين بكار السباعي
تشير المشاورات رفيعة المستوى التي تجري اليوم بين مستشاري جلالة الملك والأمناء العامين للأحزاب السياسية إلى أن المغرب دخل مرحلة جديدة من تدبير ملف الصحراء بعد قرار مجلس الأمن 2797. فالإنتقال من مستوى الدفاع الدبلوماسي إلى مستوى بناء الهندسة المؤسساتية للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية دليل على أن الدولة حسمت رؤيتها وأصبحت تعمل على تهيئة الإطار الوطني الذي يسبق تنزيل هذا الورش التاريخي. وإشراك الأحزاب في هذه المشاورات يعكس رغبة ملكية واضحة في جعل التنفيذ القادم نتاج لتوافق سياسي واسع، يضمن مشروعية قوية لمؤسسات الحكم الذاتي، ويرسخ مشاركة القوى الوطنية في بلورة التفاصيل الدقيقة لهذه المرحلة الحاسمة.
 
وهنا وجب الإنتباه من خطر الوقوع في الأخطاء الجغرافية أو السياسية المرتبطة بنطاق ما يسمى “تقسيم الوهم”، خاصة عند تناول وضعية جماعة المحبس في جهة كلميم وادنون أو مدينة طرفاية في جهة العيون الساقية الحمراء. فالتعامل مع هذه المناطق بدقة علمية وقانونية لا يخدم فقط وضوح الرؤية الوطنية، بل يقطع الطريق أمام محاولات الجزائر و بوليساريو إستغلال أي هفوة أو تصريح غير منضبط لإعادة تدوير أطروحاتهم. إن التفاصيل الترابية ليست مجرد معطيات تقنية، بل جزء من معركة خطابية وسياسية يجب أن يكون فيها الأداء الوطني منسجم و دقيق ومحصن من أي انزلاق. ذلك أنه و من خلال النقاش العمومي، يظهر أن بعض التدخلات السياسية أو التصريحات المحلية بالصحراء تنطوي على مخاطرة حقيقية إذا ما تم التعاطي مع هذا الورش بمنطق إنتخابي أو قبلي، لأن المرحلة التي يعيشها المغرب اليوم دقيقة للغاية، فهي مرحلة ما بعد الإعترافات الدولية المتوالية بمغربية الصحراء، وما بعد التحول الأممي في توصيف النزاع، وما قبل البناء المؤسساتي لنظام حكم ذاتي سيعيد تشكيل المشهد الترابي والسياسي بالصحراء. لذلك فإن أي خروج عن الإنضباط أو أي تصرف غير محسوب قد يحدث ارتباك داخل السياق الوطني، ويفتح المجال أمام خصوم المغرب لاستغلال والدعاية.
 
فالخطاب الذي يضع الصحراء فوق كل الحسابات الحزبية والقبلية يظل ثابتا باعتباره امتداد للرأسمال الرمزي الكبير الذي راكمته المملكة منذ المسيرة الخضراء. فالقضية الوطنية لا تحتمل المزايدات ولا العصبيات، لأنها قضية وجودية إرتوت رمالها بدماء الشهداء وتجسد عمق الإرتباط التاريخي بين سكان الصحراء والعرش العلوي المجيد. ومن ثم فإن المرحلة الحالية تتطلب التمسك بالوحدة الوطنية كإطار مرجعي، وضبط التفاعلات السياسية حتى تنسجم مع اللحظة التاريخية التي يقف فيها المغرب على أعتاب تنزيل حل نهائي ذي مشروعية أممية ودولية.

وحسب وجهة نظرنا المتواضعة ، فالتحديات المستقبلية تتجلى في أبعاد متداخلة تتطلب معالجة دقيقة وإستشرافية. حيث نقف أولا على تحدي ضبط الخطاب المحلي بالصحراء، وهو أمر سيحدد مدى قوة الجبهة الداخلية في مواجهة محاولات الإستغلال الخارجي، لأن أي إختلاف في التصريحات أو أي سوء تقدير في توصيف الوقائع قد يخلق ضبابية تستغل إعلاميا وسياسيا من خصوم الوحدة الترابية. وإلى جانب التحدي السابق ، نرى ضرورة مأسسة المشاورات الحزبية، بما يضمن توافق وطني واسع والذي سيشكل قاعدة صلبة قبل الشروع في تنزيل أي ترتيبات قانونية أو مؤسساتية، إذ إن تنفيذ الحكم الذاتي يتطلب رؤية موحدة تتجاوز الإنقسامات التقليدية.

كما يظهر تحدي آخر في ضرورة تعزيز شرعية النموذج المؤسساتي والتنموي الذي سيؤطر الحكم الذاتي، بحيث يكون نموذج ذا جاذبية، قادر على خلق الثقة لدى الساكنة المحلية، ومتماسك بما يكفي لمواجهة الإكراهات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية التي قد تبرز خلال مرحلة الإنتقال. ويضاف إلى ذلك ضرورة تحصين المشهد السياسي من محاولات تحويل النقاش حول الحكم الذاتي إلى موضوع للركوب السياسي أو القبلي، لأن نجاح المشروع يتوقف على تجاوز منطق الزبونية التقليدية وإعتماد مقاربة وطنية عقلانية تقدر حساسية اللحظة بدقة.
 
ختاما، إن المغرب يوجد اليوم أمام لحظة تاريخية غير مسبوقة، لحظة يتم فيها الإنتقال من معركة الدفاع عن الحقوق إلى معركة بناء النموذج،  ومن مواجهة الأطروحات الخارجية إلى صياغة المؤسسات الداخلية، ومن تثبيت الشرعية الأممية إلى إنشاء هندسة سياسية ستشكل مستقبل الصحراء والمغرب. ولذلك فإن حجم التحديات يفرض تعاملا ناضجا وخطابا موحدا، ورؤية حكيمة تستثمر كل المكتسبات وتحصن كل المكامن، استعدادا لمرحلة تؤسس لواقع جديد في الأقاليم الجنوبية تحت السيادة المغربية الكاملة من طنجة إلى الكويرة.
 
 
د. الحسين بكار السباعي / محلل سياسي وخبير إستراتيجي