فؤاد زويريق: الجرأة في السينما المغربية بين الفكر والإثارة

فؤاد زويريق: الجرأة في السينما المغربية بين الفكر والإثارة الأفلام المغربية موضوع النقد الفني
عندما نتكلم عن الجرأة في سينمانا يربطها البعض مباشرة بالعري والجنس، وهذه آفتنا للأسف، كل شيء لدينا نربطه بالنصف السفلي من الجسد، وكأن المخيال الجمعي اختُزل في مساحة بيولوجية ضيّقة، هي قراءة فقيرة للجرأة تكشف في عمقها عن عجزٍ ثقافي في إدراك مفهوم الجرأة الحقيقية التي نشير إليها، تلك القادرة على التغلغل في فكرنا ووعينا ومساءلته، بعيدا عن دغدغة غرائزنا، إنّها جرأة تفكيك، لا جرأة تعرّ، جرأة تُعرّي الأفكار، وتُفكِّك البنى الذهنية التي نحتمي وراءها، وتكشف طبقات الوعي المطمورة تحت ركام العادات والمسلّمات، فتجعلنا نرى أنفسنا ومجتمعنا خارج مناطق الراحة التي اعتدنا عليها، كما تضعنا أمام أسئلة موجعة حول الذات والمجتمع... طبعا أنا هنا أتكلم عن النحن، وليس عن الآخر، فالآخر وخصوصا الغربي مسألة الجرأة لديه تتجاوز بكثير تلك الحساسية التي نختبرها نحن، فهو لا يقف عند حدود الجسد، بل يتعداه إلى خلخلة أنماط التفكير المستقرة لديه، ويضعها تحت مقصلة المساءلة، الجرأة عنده فعل تفكير يعيد بناء الوعي، وعندنا تُفهم عادة على أنها مجرد فعل مبتذل، بل مؤامرة لزعزعة أخلاق المجتمع، وثوابت الأمة.
 
الجرأة التي نعنيها إبداعيا تتجاوز حدود الجسد، وتتعدى الكشف عن نصفه السفلي، إلى قول ما لايقال عادة، وطرح الأسئلة الكبرى بعيدا عن الاستفزازات الشكلية، وإظهار ما نخشى الكشف عنه في ذواتنا قبل مجتمعاتنا، وفضح ما يُراد له أن يبقى مستترا خلف ستائر الإيديولوجيات بكل أشكالها وأنواعها، واقتحام الخطوط الحمراء الوهمية بشجاعة الفكر لا ببداهات الإثارة الرخيصة، وبقوّة السؤال لا بضجيج الاستفزاز، وبقدرة النقد على إزاحة الأقنعة لا بسطحية كسر التابوهات لأجل فرجة مبتذلة.
 
وهنا تحضرني بعض التجارب السينمائية المغربية، تلك التي أراها شخصيا لم تأخذ حقها من الاهتمام والنقاش، رغم أنها جريئة إلى حدّ ما، حسب رأيي طبعا. سأذكر بعجالة ثلاث تجارب حديثة ومهمة، كل واحدة صاغت جرأتها بشكل معين ومختلف، طبعا قد يتفق معي البعض فيما سأذهب إليه وقد يختلف، وهذا يبقى رأيه وله كامل الإحترام، كما لرأيي كامل الاحترام أيضا.
 
أول تجربة هي فيلم ''جبل موسى'' للمخرج المغربي ادريس المريني، وهو فيلم محترم جدا في طرحه، فيلم يغرد خارج السرب، فرؤيته الفكرية تُحتم عليك مناقشة أفكاره وتحليل أطروحته وتفكيك فلسفته، تلك التي تنادي بتجاوز ظاهر الأشياء للوصول الى المعنى المُستتر خلفها بعمقه الروحي التأملي. فيلم اقتحم حقل ألغام لكن بذكاء ونعومة وسلاسة دون تعريض نفسه لخطر الإنفجارات، ابتداء من عنوانه ذي الحمولة الميثولوجية، والدينية، والإنسانية... مرورا بعوالم صادمة يتقاطع فيها كل ما هو فلسفي وديني وصوفي... الفيلم يناقش الذات، ويسائل العقل، ويتأرجح بين دلالات الظاهر والباطن بحوارات هادئة وكلمات مستقاة، كما يطرح تساؤلات وجودية تأملية تتنقل بين الإيمان والكفر، بين الله والإنسان، حتى لو لم تكن في العمق الذي نأمله ونتمناه، لكن على الأقل جعلت الفيلم يكسر حاجز الصمت ويمنحنا موضوعا نناقشه، لكن للأسف عوض مساءلة الواقع السينمائي المحدود والبئيس فكريا ومناقشة الفيلم باعتباره خطوة أولى نحو أعمال أكثر جرأة وجِدية، بل ومناقشة علاقته بالأدب وقدرته على الاقتباس من الرواية، لأن هذا لا يحدث كثيرا في مجالنا السينمائي، أهملناه، وأدخلناه في درج النسيان، وهذا مؤسف ومخجل.
 
التجربة الثانية هي فيلم ''العبد'' الذي يحمل توقيع عبد الإله الجوهري، نعم فيلم ''العبد'' وهو فيلم مهم لو كنتم تعلمون، وأراه شخصيا إضافة للفيلموغرافيا المغربية أكثر من أفلام عدة حازت جوائز في الشرق والغرب، لكنه للأسف لم يأخذ حقه في القراءة والمناقشة، حتى لو كانت ضده لكن بإنصاف وتجرّد وحيادية، أهمية هذا الفيلم تتجلى في روح الفكرة نفسها، تلك التي كان من الممكن أن تُبنى عليها تجارب فيلمية أخرى أكثر تطورا وإقناعا، الفيلم (حسب رأيي الشخصي) اقتحم عالما لم يسبقه إليه أحد من السينمائيين المغاربة من قبل، وهو "العالم الفاوستي"، الفيلم تجرّأ على هذا العالم بكل ما يحمله من حمولة فلسفية وأسئلة وجودية جارحة، لقد تعامل مع "فاوست" لا كمرجع أدبي جاهز، بل كحقل إشكالي مفتوح، حقل تتصارع فيه الإرادة والإغواء، العبودية والحرية، الرغبة والضمير... وما فعله الفيلم هو أنّه نقل الصراع الفاوستي من فضائه المسرحي الى الفضاء السينمائي، حيث اشتغل على الصراع داخل بنية اجتماعية وثقافية مختلفة تماما، حيث السلطة تتخفّى في أشكال أخرى، وحيث الشيطان لا يأتي بالضرورة في هيئة أسطورية، بل في صورة إكراهات، ووعود براقة تتسلّل إلى الوعي من دون أن نشعر. وبهذا الانزياح، تحوّل فاوست في الفيلم من شخصية أسطورية إلى فعل محتمل يختبره كل فرد في مواجهة الإغراءات مقابل أثمان باهظة تُدفع من جوهره الإنساني.
 
الفيلم عبارة عن قصة يتجلى فيها الصراع الكلاسيكي بين الخير والشر، لكن انطلاقا من فكرة ''دكتور فاوست'' للشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي كريستوفر مارلو، أو هكذا قرأتها، وفيلم العبد هو التجربة الوحيدة التي وقفتُ عليها شخصيا ووجدتها قد تبنت هذه الفكرة، وأقحمتها في السينما المغربية، لتمنحنا في الأخير موضوعا مختلفا قلما تطرقت إليه الأفلام المغربية.
 
التجربة الثالثة هي فيلم "موفيطا" للمخرج معدان الغزواني وهو مخرج شاب يخوض أول مرة مغامرة صناعة الفيلم الروائي الطويل، هذا الفيلم جريء أيضا، وجرأته تتجلى في تمرده على القوالب الكلاسيكية الجاهزة في السينما المغربية، فكرة وقصة... فهو لم يخضع لمنطق السرد الخطي ولم يستسلم لارتياحات المشاهدة السهلة، بل اشتغل على تفكيك شكل الحكاية نفسها. جرأته الحقيقية تتجلّى في تحريره الصورة من أسر النمطية، وفي قدرته على تحويل الفيلم إلى مساحة تجريبية تُختبر فيها اللغة البصرية كما تُختبر الفكرة، هو فيلم رفض أن يكون فيلما حَكَّاءً فقط، إذ لم يُهادن الذوق العام ولم يخضع لمنطق السوق، بل ذهب نحو منطقة فنية، وفكرية محفوفة بالمخاطر، حيث تتحوّل السينما من صناعة إلى سؤال، ومن حكاية إلى تجربة، ومن متعة إلى صدام معرفي، إنها جرأة لا تهدف إلى الاستفزاز، بل إلى فتح ثغرة في جدار التكرار والنمطية التي خنقت سينمانا طويلاً.
 
هي ثلاث نماذج مختلفة طرحتها هنا للكشف عن الجرأة التي نعنيها في حديثنا عن السينما، بعيدا عما يذهب اليه خيال البعض، الجرأة كطرح يُعلي من شأن الفكرة لا الإثارة، ويُنقّب في المسكوت عنه المعرفي والفني لا في الجزء السفلي من الجسد (بل حتى هذا الجزء يتقمص معنى ودلالة في الكثير من الطروحات، لكن ليس هذا موضوعنا اليوم) أقول، جرأة تُحرّر الوعي من تكلّس المسلّمات، حتى لو كانت هذه المسلمات فنية محضة، جرأة تُعيد تعريف علاقتنا بالسينما بوصفها فضاءً للتفكير والمساءلة، لا ساحة للغرائز والفضول السطحي، ومهما اختلفت آراؤنا حول هذه الأعمال، فهي تبقى تجارب ومحاولات كان من الممكن البناء عليها وعلى غيرها، رغم قلتها، وتطويرها فنيا للوصول الى النتيجة التي نصبوا اليها جميعا ونتمناها في سينمانا، لكن للأسف مثل هذه التجارب لا تحظى بالإهتمام اللازم، لتبقى معظم أفلامنا ''تتقولب'' بقوالب نمطية مملة جاهزة، بعيدا عن جرأة الطرح، وجرأة الفكر، وجرأة المعالجة الفنية أيضا.