عبد اللطيف رويان تبدو عبارة "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" من أكثر الجمل نبلاً في تاريخ الفكر القانوني الحديث، إذ تمثل إحدى الركائز التي تقوم عليها العدالة الإجرائية وضمانات المحاكمة العادلة. غير أن هذه القاعدة، رغم وهجها التصوري المشحون بالانطباع، تواري خلفها بنيةً اجتماعية ورمزيةً معقدة تجعلها في الممارسة أقرب إلى شعار أخلاقي منها إلى حقيقة قانونية فعلية. فهي، في كثير من السياقات، لا تصف ما هو كائن بقدر ما تعبّر عمّا يجب أن يكون، أي أنها تشتغل كمبدأ معياري مثالي يواجه واقعًا مغايرًا.
من الناحية النظرية، تقتضي القاعدة أن عبء الإثبات، ولا سيما في المادة الجنائية حيث تتحمّل النيابة العامة واجب إقامة الدليل، يقع على سلطة الاتهام، وأن الفرد لا يُدان إلا استنادًا إلى أدلة قاطعة وقرائن مادية ثابتة. غير أنّ المقاربة السوسيو-قانونية تكشف أنّ هذا المبدأ، رغم صلابته المعيارية، قد يتعرض في الواقع لتآكل رمزي داخل الممارسة اليومية للعدالة. فبمجرد أن تُنسَب إلى شخص تهمة ما، قد يفقد فعليًا جزءًا من رأسماله الرمزي والاجتماعي والأخلاقي والقيمي في نظر الجماعة، إذ يمكن أن تغدو سلطة الشبهة أقوى من افتراض البراءة في بعض السياقات، مع الإشارة إلى أن هناك أيضًا حالات تحترم فيها المحاكم والآليات القانونية هذا الافتراض بشكل صارم.
ويُسهم في هذا التآكل تضافرُ مجموعةٍ من العوامل المتشابكة: منطق الإعلام القائم على الإثارة وصناعة الفرجة القضائية، والتمثلات الاجتماعية التي تربط الجريمة بالانتماء الطبقي أو بالمظهر أو بالأصل الاجتماعي أو بالوسط السكني، فضلًا عن بعض الآليات المؤسساتية التي تميل، في ممارستها، أحيانًا إلى التعامل مع المتهم بوصفه مذنبًا محتملًا لا بريئًا مفترضًا، مع العلم أن الممارسة القانونية الفعلية كثيرًا ما تحقق التوازن بين الضبط والبراءة.
لقد شكّل المتَّهَم في أدبيات سوسيولوجيا الجريمة والانحراف موضوعًا لتفاعلات رمزية مكثّفة، إذ لا يُنظر إليه باعتباره مجرد فاعل قانوني داخل مسار العدالة، بل كفاعل اجتماعي محكومٍ بشبكةٍ من التمثلات الأخلاقية والثقافية والطبقية والإعلامية. فبمجرد تداول اسمه أو نشر صورته، قد تبدأ آلية الوصم الاجتماعي التي تُنتج ما يمكن تسميته بالهوية المنحرفة المفروضة، على الرغم من أن هناك حالات يُحترم فيها حق المتهم في البراءة الاجتماعية حين تُتوفر أدلة وقرائن واضحة، مما يوضح أن الواقع الاجتماعي لا يتطابق دائمًا مع التعميم السلبي.
وتكمن خطورة هذه العملية في أنها لا تستند دائمًا إلى حكم قضائي بات، بل إلى إطار دلالي وتأويلي راسخ في المخيال الجمعي، حيث تُختزل الذات في صورة نمطية تستمد قوتها من الرأسمال الرمزي السلبي الذي تولّده الشبهة. وهكذا، قد يتحول المتهم أحيانًا من فاعل قانوني إلى رمز اجتماعي للانحراف، يُعاد إنتاجه باستمرار عبر الخطابات الإعلامية والتمثلات الجماعية، فضلاً عن التداولات الافتراضية الرقمية، التي تُكرّس منطق الإدانة الرمزية قبل الإدانة القضائية، مع الإشارة إلى أن هذا لا يحدث دائمًا، وأن البراءة الاجتماعية يمكن استعادتها في ضوء قرائن واضحة أو تدخل مؤسساتي حيادي.
وتُبيّن أبحاث هوارد بيكر وإرفينغ غوفمان وغيرهما من روّاد نظرية الوصم أن عملية الوصم الاجتماعي لا تنتظر صدور حكم بات حائز لحجية الشيء المقضي به، بل تنشأ قبله وتستمر بعده في بعض الحالات، بينما يتم احترامها أحيانًا عندما تتطابق القرائن الاجتماعية مع الأحكام القضائية. فالمجتمع، خلافًا للمنظومة القانونية، يشتغل وفق منطق الفرز الأخلاقي الذي يصنّف الأفراد على أساس السمعة، والتمثلات الاجتماعية، والهوية الطبقية، والانتماء المكاني، والعلاقات الاجتماعية، لا بالضرورة على أساس القرائن القانونية أو الأحكام القضائية. ويبدو هذا المنطق جليًّا في الأمثال والمسكوكات الشعبية المغربية التي تُعبّر عن حكم مسبق أو تصور متوارث للآخر، مثل القول: «مكاينش دخان بلا عافية» أو «لمخزن ما كيظلم حد» أو «مع من شفتك مع من شبهتك»... هي وغيرها تعبيرات تُجسّد سلطة الشبهة في تشكيل الحكم الاجتماعي، حتى في غياب أي إثبات قانوني، مع الإشارة إلى أن هذه الظاهرة قد تختلف بحسب السياق الثقافي والقانوني في مجتمعات أخرى.
بهذا المعنى، قد تُختبر البراءة أيضًا من خلال ديناميات اجتماعية تتجاوز النصوص القانونية، لكنها قد تُستعاد أو تُدعم عندما تتوافق القرائن الاجتماعية مع القرائن القانونية. فالإجراءات الاحترازية، مثل الحراسة النظرية، والاعتقال الاحتياطي، والمراقبة القضائية، أو المتابعة في حالة سراح... – تكشف أن القانون يتعامل مع الفرد بوصفه "مشتبهًا فيه" لا "بريئًا" دائمًا، ما يجعل المقولة في بعض الحالات غطاء لغوي لتدابير احترازية قبل الإدانة الفعلية، لكنها لا تنفي وجود ممارسات تحترم البراءة.
إن القانون يمكن أن يُقرأ أحيانًا من منظور سوسيولوجي على أنه يمارس ضغوطًا معيارية على الأفراد؛ فهو يعد بالحماية ظاهرياً، لكنه في بعض الممارسات قد يعيد إنتاج علاقة سلطة غير متكافئة بين المجتمع والفرد. فالمنظومة القانونية تحتكر تعريف العدالة وشروط إنتاجها، وتُسند لنفسها سلطة تأويل القاعدة وتحديد مجال نفاذها، بينما يجد المتهم نفسه داخل دائرة محدودة حيث يتم ضبط حدود قوله وفعله، مع الإشارة إلى الحالات التي يحمي فيها القانون حرية المتهم وحقه في التأويل.
فمثلاً، في قضايا الخطأ غير العمدي، قد يؤكّد المتهم أن سلوكه كان ناتجاً عن ظرف واقعي قاهر أو عن تقدير معقول للحظة وسياق معين، غير أنّ المنظومة القانونية قد تُعيد تأويل هذا السلوك وفق معايير جاهزة، لكن أحيانًا تُحترم التقديرات الإنسانية وتُؤخذ بعين الاعتبار عند الفصل في الدعوى. وهكذا يصبح تفسيره لما وقع ذا أثر في بعض الحالات، وفقًا لتوازن بين التوقع القانوني والتقدير الإنساني.
إن المطلوب اليوم ليس مجرد ترديد قاعدة "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" كما هي، بل مساءلتها كمفهومٍ مركزيٍّ يتجاوز حدود القانون نحو فضاء الاجتماع والثقافة والسياسة... وذلك عبر طرح التساؤلات التالية: هل البراءة حق أصيل أم استثناء قانوني؟ وهل القانون يضمن البراءة فعليًا أم يمنحها على نحو مشروط؟ وهل يمكن الحديث عن "براءة اجتماعية" موازية ل"براءة قانونية"؟
إن هذه الأسئلة توضح أن العدالة لا تُقاس بالنصوص القانونية وحدها، بل أيضًا بقدرة المجتمع والمؤسسات على تطبيق النصوص بما يحقق حماية المتهم من الشبهة ومن القوالب النمطية التي قد تجرّمه قبل صدور الحكم، ومن الأحكام الرمزية التي قد تصدرها الذاكرة الجماعية بسرعة تفوق قدرة القضاء على الفصل، ومن وصمة محتملة قد تلازمه حتى بعد تبرئته. ومع ذلك، يجدر التنويه بأن البراءة الاجتماعية ليست مطلقة، ويمكن استعادتها وتأكيدها عند توفر القرائن والحقائق الواقعية التي تتماشى مع الأحكام القانونية، مع مراعاة أن السياق الاجتماعي والقانوني قد يختلف بين الثقافات والدول.
د.عبد اللطيف رويان، باحث في سوسيولوجيا الجريمة والانحراف-