عبد الرفيع حميدي مقدمة
لا تنهض التنظيمات التربوية والنضالية بالقوانين والبرامج فحسب، بل بروحها وذاكرتها؛ أي بذلك الرصيد القيمي والوجداني الذي يتراكم عبر محطات النضال والعطاء.
فالقوة الحقيقية لأي تنظيم لا تُقاس بعدد أنشطته أو بياناته، بل بقدرته على صون ذاكرته الجماعية التي تختزن المعنى، وتحفظ الوفاء، وتغذي الانتماء.
غير أن أخطر ما يمكن أن يُصيب هذه الذاكرة ليس النسيان الطبيعي الذي يرافق الزمن، بل العقلية الهمزوية التي تتغذّى من الانتقاص والتشكيك والتهكم، فتقوّض أسس الثقة، وتزرع الشك بدل الوفاء، والإحباط بدل الإيمان
إنها عقلية تُفرغ الفعل التربوي من رسالته، وتمهّد لانهيار الذاكرة الجماعية، وتفتح الباب أمام الانتهازية التي تُحوّل الرسالة إلى وسيلة، والمبدأ إلى مصلحة.
كما يؤكد عبد الله العروي 1996، فإن فقدان الذاكرة التاريخية يُفقد المجتمع قدرته على الاستمرار في مشروعه الحضاري، لأن الوعي بالتاريخ هو أساس الوعي بالذات.
وحين ينسى التنظيم تاريخه، ينسى مبرّر وجوده، ويخسر جذوره التي تمنحه الثبات في وجه التحولات.
أولًا: الذاكرة التربوية النضالية… روح التنظيم ومرجعيته
الذاكرة التربوية النضالية ليست مجرد سردٍ لتاريخٍ أو قائمةٍ بأسماء المؤسسين؛ إنها حكاية الإيمان الجماعي، والتضحيات، والرموز، والمبادئ التي شكّلت هوية التنظيم وأعطت لوجوده معنى يتجاوز الظرفي والعابر
إنها مستودع القيم والمواقف التي صاغت التجربة التربوية، ورافعتها الأخلاقية التي تحفظ للتنظيم أصالته واستمراريته.
فمن خلالها تتوارث الأجيال بوصلة الانتماء، وتتعلم أن الالتزام ليس قرارًا إداريًا، بل موقف تربوي نابع من الوعي والمسؤولية.
وحين تُهمَل هذه الذاكرة أو يُستهان بها، يفقد التنظيم روحه التربوية، ويتحوّل إلى هيكل إداري بارد، بلا حرارةٍ في الخطاب ولا رؤيةٍ في الممارسة.
يصف باولو فريري 1970الذاكرة التربوية بأنها ذاكرة المقاومة، لأنها تحفظ المعنى، وتربط التعلم بالتحرر لا بالتلقين، وبالمسؤولية لا بالخضوع.
فالذاكرة التربوية، بهذا المعنى، هي فعل مقاومة ضد النسيان، وضمانة لدوام الفعل التربوي في وجه كل أشكال التفريغ والانتهازية.
ثانيًا: العقلية الهمزوية… حين يتحول النقد إلى نقض
العقلية الهمزوية نسبة إلى الهمزة الفرصة أو الهوتة نجدها في جميع الميادين وخصوصا التنظيمات الجماهيرية ليست نقدًا بنّاءً يهدف إلى التقويم، بل نقضٌ هدام يهدف إلى التشكيك وإضعاف الروح الجماعية تبدأ بالعبارات الصغيرة، وتنتهي إلى ثقافة الشك العام، حيث يصبح كل إنجاز موضع اتهام، وكل اختلاف مبررًا للإقصاء والتهميش ولايمكن البناء أو المساهمة فيه مالم يتم القطع مع هذه العقليات التي تهمش الفعل الإيجابي.
يحذّر علي حرب 2003من هذا النمط من التفكير، لأنه يفرغ النقد من مضمونه التحرّري، ويحوّله إلى أداة لتفكيك الثقة الجماعية بدل تطويرها، فتتآكل العلاقات بين الأعضاء، ويضعف الانتماء، ويُفقد التنظيم القدرة على التعلم الجماعي.
ثالثًا: أثر العقلية الهمزوية على الذاكرة الجماعية
حين تسود العقلية الهمزوية داخل التنظيمات التربوية والنضالية، تبدأ الذاكرة الجماعية في التآكل بشكل تدريجي، وليس بشكل فجائي. هذه العقلية، التي تقوم على الانتقاص والتشكيك المستمر والتهكم، تعمل على تحييد القوى المعنوية للتنظيم، فتضعف قدرة الأعضاء على التعلّم من التجارب السابقة واستلهام الدروس من مسار الرواد
ويتجلى هذا التآكل في عدة مظاهر مترابطة
تشويه صورة المؤسسين والرواد حيث تُهمش إنجازاتهم الحقيقية ويُقلّل من قيمة رموزهم وإسهاماتهم، ما يؤدي إلى فقدان القدوة المرجعية التي تربط الأجيال الحالية بالماضي النضالي، ويضعف الانتماء النفسي للتنظيم.
نسيان تاريخ البدايات المضيئة واستبداله بخطابات ظرفية تصبح الأحداث التاريخية مجرد سرديات سطحية، بلا سياق تربوي أو تعليمي، ما يؤدي إلى إلغاء التجربة التعليمية التي تحافظ على اتساق الرسالة التربوية والنضالية.
فقدان قيمة الرموز وتفريغ الشعارات من معناها تتحول الرموز التربوية إلى شعارات بلا وزن، فتضعف الحافزية لدى الأعضاء ويقلّ الاعتراف بالجهود الجماعية، ويصبح الانتماء مجرد التزام شكلي بلا روح.
تحويل الذاكرة من حكاية مشتركة إلى سلسلة من الاتهامات المتبادلة هنا تتبدد الوحدة الداخلية، ويصبح كل فعل محل شك، وكل نجاح موضع تقليل، فتتبدد الثقة المتبادلة، ويصبح التنظيم عرضة للانقسامات الداخلية والارتجال التنظيمي.
في هذا السياق، لا يعد فقدان الذاكرة مجرد مسألة تاريخية، بل تهديد وجودي للتنظيم، لأنه يفقد مرجعيته الأخلاقية ويصبح عاجزًا عن مواجهة التحديات، ويصبح الحاضر بلا وعي بالماضي، ما يمهد الطريق لظهور الانتهازية التي تستغل الفراغ القيمي والمعنوي لصالحها الشخصي.
وكما يشير بيير نورا1984 حين نفقد أماكن الذاكرة، نفقد جذورنا الرمزية، ونصبح مجتمعات بلا مرجعيات.
وهذا يوضح أن فقدان الذاكرة ليس مجرد ظاهرة تاريخية، بل تهديد مباشر لقدرة التنظيم على الاستمرار والنمو، ويجعل أجياله عاجزة عن استلهام الدروس من الماضي.
رابعًا: الانتهازية كنتيجة للعقلية الهمزوية
في الفراغ الذي تتركه العقلية الهمزوية، يظهر الانتهازي الذي يستغل ضعف الثقة والانتماء الجماعي لتقديم نفسه بديلاً عن التاريخ والقيم، وبذلك يحوّل التنظيم إلى مساحة لتصفية المصالح الشخصية.
يتقن الانتهازي لغة المجاملات والتملّق بدل الكفاءة، ويُراكم الولاءات والمنافع بدل الالتزام بالمبادئ، فيصبح الانتماء مجرد أداة للوصول الشخصي، لا شعورًا بالواجب الجماعي أو مسؤولية تربوية.
وحين تصبح الانتهازية أسلوبًا للترقي أو للظهور، يموت النضال بصمت؛ إذ تتحوّل الرسالة التربوية من مشروع إصلاح وتربية إلى وسيلة لمصالح شخصية، وتُفقد المبادئ قيمتها، فيتعطل الفعل التربوي النضالي ويضعف تأثيره,
وهو ما يسميه بيير بورديو1997 بـ"رأسمال الرمزية الزائفة"، حين يُستبدل الاعتراف الاجتماعي القائم على العمل الحقيقي باعتراف شكلي مبني على العلاقات والمصالح، ما يحوّل الإنجازات إلى أدوات تسلق بدل أن تكون رموزًا للتعلم والنمو الجماعي.
بهذا التحليل، يتضح أن العقلية الهمزوية والانتهازية يتكاملان لتفريغ التنظيم من روحه وذاكرته التربوية النضالية، ما يهدد استمراريته وقدرته على تحقيق رسالته الأصلية.
خامسًا: سبيل المواجهة – إحياء الذاكرة وترميم الثقة
مواجهة العقلية الهمزوية لا تكون بالرد المباشر عليها أو الانجرار إلى الصراعات الداخلية، بل بإحياء ما تريد هذه العقلية أن تطفئه: ذاكرة التنظيم، قيمه، ومبادئه التربوية النضالية
ويتم ذلك عبر عدة مسارات عملية ومترابطة
إعادة كتابة التاريخ النضالي للتنظيم بشفافية وإنصاف، بحيث تُوثّق الإنجازات وتُصوّر التضحيات والجهود الحقيقية للأعضاء المؤسسين والرواد.
غرس ثقافة الاعتراف والتقدير بدل السخرية والتقليل، لتقوية الانتماء وتحفيز الجهود الفردية والجماعية
نقل التجارب المؤسسة للأجيال الصاعدة عبر برامج التكوين والملتقيات والورش، لتكون الذاكرة الحية مصدر إلهام وقيمة تربوية مستمرة.
تبني النقد البنّاء المسؤول الذي يصوّب دون أن يهدم، ويقوم دون أن يشهّر، ليصبح أداة للتطوير والتحسين بدل أداة للتمزيق والتشكيك.
كما يؤكد عبد الكريم غلاب1984 الأمم التي لا تحفظ سير رجالاتها، تفتح الباب لزمن الارتجال، حيث يحكمها الصغار باسم النسيان.
فالذاكرة التربوية النضالية ليست رفاهًا ثقافيًا، بل ضرورة وجودية لاستمرارية التنظيم وقوة رسالته، وحماية قيمه من الانحراف والانتهازية، وضمان انتقال الخبرات والمعرفة عبر الأجيال.
بهذا التفعيل الواعي للذاكرة، يتحول التنظيم من مجرد هيكل إداري إلى فضاء حيوي للإبداع والتربية والنضال، قادر على مواجهة تحديات العصر بثقة وثبات.
خاتمة
إنّ العقلية الهمزوية أخطر على التنظيمات من خصومها الخارجيين، لأنها تفتك بها من الداخل، وتضعف ذاكرتها التي تُعدُّ أساس قوتها واستمراريتها.
فالذين يُنسون تاريخهم يُهزمون مرتين مرة حين يضعفون أمام الواقع، ومرة حين يفقدون المعنى والغاية التي جمعتهم.
ومن ثمّ فإن حماية الذاكرة التربوية النضالية ليست رفاهًا رمزيًا أو مجرّد اهتمام بالأرشيف، بل ضرورة وجودية لضمان استمرار التنظيم في أداء رسالته وتحقيق أهدافه، والحفاظ على المبادئ والقيم التي قامت عليها حركته.
فالكيان التنظيمي لا يموت حين يُحاصر أو يُستهدف من الخارج، بل حين ينسى من كان، ولماذا بدأ، وعندها يفقد جذوره ومرجعيته، ويصبح عرضة للتفكك والانحراف والانتهازية.
إن استعادة الذاكرة وحمايتها هي السبيل الوحيد للحفاظ على الهوية، وتعزيز الانتماء، وتمكين الأجيال القادمة من الاستمرار في مسار النضال والتربية بثقة وثبات.