فؤاد عبد الهادي: السياسة البيصارية.. أزمة الخطاب السياسي في عصر الرمزية الفارغة

فؤاد عبد الهادي: السياسة البيصارية.. أزمة الخطاب السياسي في عصر الرمزية الفارغة فؤاد عبد الهادي، أستاذ باحث
في‭ ‬فضاء‭ ‬سياسي‭ ‬تتقاطع‭ ‬فيه‭ ‬المفارقات‭ ‬وتتسارع‭ ‬فيه‭ ‬الاستفزازات،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬التصريحات‭ ‬الغريبة‭ ‬التي‭ ‬يصدرها‭ ‬من‭ ‬يُفترض‭ ‬أنهم‭ ‬“نخب“‭ ‬مجرد‭ ‬حالات‭ ‬معزولة‭ ‬تُثير‭ ‬الدهشة،‭ ‬بل‭ ‬صارت‭ ‬مؤشراً‭ ‬على‭ ‬تحوّل‭ ‬بنيوي‭ ‬عميق‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬الفعل‭ ‬السياسي‭ ‬ذاته‭. ‬من‭ ‬برلماني‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬وجبة‭ ‬“البيصارة“‭ ‬أداة‭ ‬دبلوماسية‭ ‬لحسم‭ ‬قضية‭ ‬وطنية،‭ ‬إلى‭ ‬وزيرة‭ ‬يقاس‭ ‬فطورها‭ ‬بثمن‭ ‬خيالي،‭ ‬إلى‭ ‬سياسي‭ ‬يطالِب‭ ‬المواطنين‭ ‬برشقه‭ ‬بالحجارة‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يُغدق‭ ‬عليهم‭ ‬بكرمه‭ ‬الحاتمي‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬فوز‭ ‬حزبه‭ ‬في‭ ‬الانتخابات،‭ ‬تتضح‭ ‬ملامح‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬وصفه‭ ‬بـ‭ ‬تفاهة‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬العمومي‭.‬
 
سوسيولوجياً،‭ ‬تكشف‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬عن‭ ‬تآكل‭ ‬الرمزية‭ ‬في‭ ‬الممارسة‭ ‬السياسية؛‭ ‬إذ‭ ‬أصبح‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسي‭ ‬مسرحاً‭ ‬لغوياً‭ ‬للعرض‭ ‬والمشاهدة،‭ ‬وأضحى‭ ‬الظهور‭ ‬الإعلامي‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬الفعل‭ ‬الواقعي‭. ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬المجال‭ ‬السياسي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الإقناع‭ ‬العقلاني‭ ‬أو‭ ‬النقاش‭ ‬البرنامجي،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬الصدمة‭ ‬والتسلية،‭ ‬فاستُبدلت‭ ‬الفكرة‭ ‬بالمشهد،‭ ‬والرؤية‭ ‬بالشعار،‭ ‬والمواطنة‭ ‬بالاستهلاك‭ ‬الرمزي‭. ‬هنا‭ ‬يتجسد‭ ‬ما‭ ‬أسماه‭ ‬بيير‭ ‬بورديو‭ ‬بالعنف‭ ‬الرمزي‭ ‬المقلوب:‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬السياسي‭ ‬يمارس‭ ‬سلطة‭ ‬الخطاب‭ ‬لبناء‭ ‬الوعي،‭ ‬بل‭ ‬لإفراغه‭ ‬من‭ ‬محتواه،‭ ‬مما‭ ‬يولد‭ ‬شعبوية‭ ‬استعراضية‭ ‬تغذي‭ ‬السخرية‭ ‬الجماعية‭ ‬وتخلق‭ ‬وعيًا‭ ‬زائفًا‭ ‬بالمشاركة‭.‬
 
إن‭ ‬هذه‭ ‬التصريحات‭ ‬تجسيد‭ ‬لانهيار‭ ‬الواقعي‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬المحاكاة؛‭ ‬فالوطنيّة‭ ‬تختزل‭ ‬في‭ ‬وجبة‭ ‬غذاء،‭ ‬والسياسة‭ ‬في‭ ‬وعد‭ ‬مالي،‭ ‬والمواطنة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬“ترند“‭. ‬خطاب‭ ‬كهذا‭ ‬يحاكي‭ ‬السياسة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سياسياً‭ ‬حقاً؛‭ ‬خطاب‭ ‬يعيش‭ ‬على‭ ‬فتات‭ ‬الرموز‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تهاوت‭ ‬القيم‭ ‬والمعايير‭ ‬التي‭ ‬تمنحه‭ ‬المعنى‭. ‬هذا‭ ‬الانحدار‭ ‬لا‭ ‬يعكس‭ ‬أزمة‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬أزمة‭ ‬وجودية‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬الفاعل‭ ‬السياسي،‭ ‬الذي‭ ‬فقد‭ ‬علاقته‭ ‬بالمسؤولية‭ ‬والتاريخ،‭ ‬واكتفى‭ ‬بدور‭ ‬“العارض“‭ ‬في‭ ‬مسرحية‭ ‬بلا‭ ‬مضمون‭.‬
 
إن‭ ‬“السياسة‭ ‬البيصارية“‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬سقوط‭ ‬لغوي‭ ‬أو‭ ‬نكتة‭ ‬عابرة،‭ ‬بل‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬تفكك‭ ‬المجال‭ ‬العمومي‭ ‬واندثار‭ ‬الفعل‭ ‬السياسي‭ ‬كأفق‭ ‬للتفكير‭ ‬الجماعي‭. ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬“البيصارة“‭ ‬حجة‭ ‬دبلوماسية‭ ‬يختزل‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬المعدة،‭ ‬والوزير‭ ‬الذي‭ ‬يقيس‭ ‬فطوره‭ ‬بالدراهم‭ ‬يحوّل‭ ‬الخدمة‭ ‬العمومية‭ ‬إلى‭ ‬استهلاك‭ ‬نرجسي،‭ ‬والمرشح‭ ‬الذي‭ ‬يشتري‭ ‬الوهم‭ ‬بالوعود‭ ‬المالية‭ ‬يعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬علاقة‭ ‬“السيد‭ ‬والعبد“‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الانتخابي‭.‬
 
مقاومة‭ ‬هذا‭ ‬الانحدار‭ ‬لا‭ ‬تتحقق‭ ‬بالتنديد‭ ‬الأخلاقي‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬بإعادة‭ ‬تأسيس‭ ‬السياسة‭ ‬كمجال‭ ‬للمعنى‭ ‬والمسؤولية؛‭ ‬عبر‭ ‬تربية‭ ‬المواطن‭ ‬على‭ ‬النقد‭ ‬بدل‭ ‬التهكم،‭ ‬وعلى‭ ‬الوعي‭ ‬بدل‭ ‬الانفعال،‭ ‬وعلى‭ ‬الفعل‭ ‬بدل‭ ‬التلقي‭. ‬حين‭ ‬يُستعاد‭ ‬العقل‭ ‬كأداة‭ ‬للفهم،‭ ‬لا‭ ‬كوسيلة‭ ‬للتبرير،‭ ‬يمكن‭ ‬للسياسة‭ ‬أن‭ ‬تتحرر‭ ‬من‭ ‬الابتذال‭ ‬وتستعيد‭ ‬جوهرها:‭ ‬فن‭ ‬تحرير‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬التفاهة،‭ ‬لا‭ ‬تسويقها‭ ‬في‭ ‬صحن‭ ‬من‭ ‬البيصارة‭.‬