في الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، التي رسخت في الوجدان المغربي معاني الوحدة الوطنية والوفاء للعهد الملكي، تعالى صوت جديد من عمق الجنوب المغربي، صوت يجسد صدق الانتماء وإرادة الإصلاح، والذي يميزه أكثر مظلته الأكاديمية التي تحمل اسما بليغا هو مجموعة الوحدة لدكاترة الأقاليم الجنوبية من أجل الإدماج.
هذه المبادرة المواطنة، النابعة من رحم الأقاليم الجنوبية، تعبر عن جيل من الباحثين الذين ضاقوا ذرعا بتهميش كفاءاتهم، وقرروا تحويل الإقصاء إلى فعل منظم يفتح النقاش الوطني حول قضية مسكوت عنها منذ عقود: الإقصاء غير المعلن للكفاءات الأكاديمية الجنوبية في مسارات التوظيف والبحث العلمي.
المبادرة لا تنطلق من منطلقات فئوية أو مصلحية ضيقة، بل من رؤية وطنية تؤمن بأن العدالة المجالية والمعرفية ركن أساسي في بناء مغرب الإنصاف وتكافؤ الفرص. فالدكتور الجنوبي لا يطلب امتيازا خاصا، بل يسعى إلى معاملة منصفة، تتيح له الإندماج في أوراش التنمية التي تعرفها الجهات الجنوبية، لا سيما في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها الأقاليم الجنوبية بفضل التوجيهات الملكية.
فاستثمار الكفاءات المحلية لم يعد ترفا، بل ضرورة تنموية لبناء نموذج جهوي متوازن ومستدام.
من رحم الجنوب... ميلاد مبادرة وطنية في صيغة أكاديمية
المجموعة التي اختير لها إسم الوحدة اليوم أكثر من خمسين دكتورا ودكتورة من جهات كلميم وادنون، العيون الساقية الحمراء، والداخلة وادي الذهب، يمثلون مختلف التخصصات العلمية والإنسانية والقانونية والاقتصادية. وقد عقدت المجموعة اجتماعا تواصليا دام أكثر من ساعتين ونصف يوم الخميس 6 نونبر 2025، عبر تقنية الاتصال عن بعد، حيث تداول الأعضاء واقع الإقصاء والبطالة الذي يعيشه دكاترة الجنوب، في ظل غياب العدالة المعرفية وضعف العدالة الترابية، وهما مفهومان أصبحا اليوم ضمن محددات النموذج التنموي الجديد الذي دعا إليه الملك محمد السادس.
وقد أكد المتدخلون على أن غياب تكافؤ الفرص في مباريات التوظيف داخل الجامعات والإدارات العمومية لا يعكس روح الدستور المغربي الذي نص على المساواة والإنصاف في الولوج إلى الوظيفة العمومية. وبينما تظل كفاءات الجنوب رهينة بطالة مزمنة، تسند المناصب في الغالب إلى خريجين من مناطق أخرى يعود أغلبهم لاحقا إلى مدنهم الأصلية، في غياب رؤية تأخذ بعين الاعتبار مبدأ الإنصاف الجهوي. وهو ما يعتبره الدكاترة تقويضا لروح الجهوية المتقدمة التي أرادها الملك أساسا للتوازن المجالي والعدالة التنموية.
معاناة لا تقاس بالأرقام... بل بكم الطاقات المهدورة
تؤكد المعطيات الرسمية الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط، سواء في إحصاء 2014 أو 2024، استمرار ارتفاع معدلات البطالة في الجهات الجنوبية، خصوصا بين حاملي الشهادات العليا. هذه الأرقام، في نظر مجموعة الوحدة، لا تعكس فقط خللا اقتصاديا، بل تكشف عن عمق أزمة العدالة المعرفية، إذ تبقى كفاءات الجنوب خارج المنظومة الأكاديمية النشطة، بسبب ضعف البنيات الجامعية وندرة مراكز البحث العلمي بالمنطقة.
ويعاني العديد من الدكاترة الجنوبيين من عزلة أكاديمية خانقة تدفعهم إلى التنقل لمسافات طويلة للمشاركة في المؤتمرات أو عرض أبحاثهم، ما يضاعف معاناتهم النفسية والمادية. إنها مأساة لا تقاس بالأرقام، بل تقاس بكم الفرص الضائعة والعقول المهدورة التي يمكن أن تكون رافعة حقيقية للتنمية.
"لقد سئمنا الصمت... نريد فقط إنصافا يليق بكفاءتنا"
وفي اتصال للجريدة مع أحد المشرفين على هذه المبادرة، عبر بصدق عن الإحباط الذي يشعر به العديد من دكاترة الجنوب، قائلا: "لا نتصور أن تتلقى الجهات المسؤولة هذه الإشارة بالجدية المطلوبة، بقدر ما سيتم التعامل معها بأسلوب التسويف والمماطلة وترك الزمن مسؤولية إقبارها. لكن، كأبناء هذا الوطن، وكأبناء الأقاليم الجنوبية الذين عمروا الجنوب المغربي متحدين قسوة الطبيعة وضعف البنيات التحتية، فإننا ما زلنا متمسكين بأمل عطف الملك وأمل توجيهاته للقائمين على تدبير هذا الملف. كما نأمل أن تتلقى المبادرة تجاوبا من كل مسؤول يستحضر الخطب الملكية التي دعت مرارا إلى إشراك أبناء الأقاليم الجنوبية في مسارات التنمية".
وأضاف المتحدث: "لقد سئمنا الصمت، نحن لا نطلب سوى الإنصاف الذي يليق بمستوانا العلمي وبإخلاصنا للوطن. الأمل معقود على إرادة الدولة في جعل العدالة المعرفية مبدأ مؤطر للسياسات العمومية."
هذا التصريح يجد صداه في الخطاب الملكي الأخير بمناسبة صدور القرار الأممي في 31 أكتوبر 2025، حيث قال الملك محمد السادس : "ولا يسعنا هنا، إلا أن نعبر عن اعتزازنا وتقديرنا، لكل رعايانا الأوفياء، لاسيما سكان الأقاليم الجنوبية، الذين أكدوا على الدوام، تشبثهم بمقدسات الأمة، وبالوحدة الوطنية والترابية للبلاد."
نداء إلى المؤسسات الوطنية... اليد ممدودة والوقت لا ينتظر
وقد جهت مجموعة الوحدة لدكاترة الأقاليم الجنوبية من أجل الإدماج نداء وطنيا مفتوحا إلى كل المؤسسات المعنية وفي مقدمتها رئاسة الحكومة ووزارة التعليم العالي والمجالس الجهوية — مطالبة بفتح حوار رسمي جاد ومسؤول حول إدماج الدكاترة الجنوبيين في المؤسسات الجامعية والإدارية ومراكز البحث. وأكدت أن هذه الدعوة تأتي في إطار تفاعل وطني إيجابي، يعكس روح الخطب الملكية التي جعلت من العدالة الترابية والإنصاف المعرفي أساسا لبناء مغرب متوازن في فرصه ومجالاته.
من كلميم إلى الداخلة... صوت الوحدة يتجاوز الجغرافيا نحو العدالة المجالية
يمثل تأسيس مجموعة الوحدة محطة رمزية في مسار الكفاح الأكاديمي الجنوبي، ليس لأنها تجمع نخبة من الباحثين فقط، بل لأنها تعيد طرح سؤال مركزي طال إهماله: كيف يمكن الحديث عن مغرب العدالة والتنمية دون عدالة معرفية ومجالية؟ إنه نداء وطني بصوت جنوبي يقول: "نحن أبناء هذه الأرض ودكاترة معطلون من أبناء الصحراء المغربية ، نحمل علمها ونحرس وحدتها، نريد فقط أن نعامل بإنصاف وأن نشعر بتكافئ الفرص كباقي أبناء المغرب، وأن نمنح حقنا في المساهمة في تنمية وطننا."
لقد اختارت المجموعة أن ترفع صوتها في لحظة وطنية جامعة، لتؤكد أن أبناء الجنوب لا يسعون إلى الظهور بل إلى الاعتراف، وأن رأسمال الجنوب الحقيقي هو الإنسان الجنوبي، لا الثروة ولا الجغرافيا.
العدالة المعرفية مدخل للإنصاف الوطني
إن مبادرة دكاترة الأقاليم الجنوبية ليست حدثا عابرا، بل وعيا جديدا تشكل داخل النخبة الجنوبية، يدعو إلى الانتقال من موقع الانتظار إلى موقع الفعل والمرافعة. فهل ستلتقط الدولة هذه الرسالة وتحولها إلى مبادرة فعلية؟ الجواب سيكون في القرارات الشجاعة التي تعيد الاعتبار للعقل الجنوبي وتكرس العدالة المعرفية والمجالية كقيم دستورية وممارسة مؤسسية فعلية.