العسيبي: تغيرت اللعبة لأن صلابة الموقف المغربي ظلت مسنودةً بروح "ثورة الملك والشعب" 1- "تغيرت اللعبة"
تلك خلاصة خبراء السياسة الدولية بتعقيداتها المتشابكة في ردهات هيئة الأمم المتحدة بنيويورك، تعليقا على القرار 2797، الصادر عن مجلس الأمن بأغلبية ساحقة، المرسخ لخيار الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل عملي وحيد تبناه المجلس وُضِعَ على الطاولة لإنهاء النزاع المفتعل حول صحرائنا الجنوبية من قبل الطرف الجزائري عبر أداة جماعة البوليزاريو (المُحتجزَةُ القرار في فيافي تيندوف الملتهبة).
نعم "تغيرت شروط اللعبة" بما يحقق انتصارا لعدالة قضيتنا الوطنية الأولى بمرجعية القانون الدولي (حيث يشكل خيار الحكم الذاتي المغربي ترجمةً فُضلَى صميمة لمبدأ تقرير المصير)، وكذا بروح التوافق السياسي العالمي الساعي بصلابةِ اليوم لإنهاء هذا الملف الذي طال خمسين سنة كاملة عطلت أسباب الأمن والنماء والتكامل بكامل منطقتنا بشمال إفريقيا وبالضفة الجنوبية للمتوسط.
"تغيرت اللعبة" لأن صلابة الموقف المغربي قد ظلت مسنودةً بروح "ثورة الملك والشعب"، ذلك الدرس التحرري الذي أبدعه المغاربة وحدهم ضمن مهرجان الأمم بالعالم. وكذا برسوخ نضالية المغاربة (دولة ومجتمع) من أجل تحرير أراضيهم التي تكالبت عليها استعمارات متعددة منذ 1956 إلى اليوم، ملفا وراء ملف وجزء من الأرض المغربية إثر جزء. ولا يزال جرح احتلال أراض غالية مغربية بضفتنا المتوسطة مفتوحا، مما يجعل ملف حقوقنا الوطنية الترابية لا يزال مطروحا بكل ما يستوجبه من كياسة السياسة وصلابة اليقين الوطني المغربي.
إن الذي انتصر في عمق الأمور هو الدرس المغربي في الصبر، في وحدة الصف، في يقين الإيمان بعدالة حقوقنا الوطنية بكل الفاتورة التي أديناها بصلابة المؤمنين بعدالة قضيتهم الوطنية التحررية، الأمر الذي وضعنا باعتزاز وفخر كأمة ضمن صف الأحرار المدافعين عن حقوقهم العادلة.
إن الذي انتصر أيضا هو خياراتنا السياسية الإستراتيجية كدولة تراكم بناء مشروع مجتمعي حداثي لدولة المؤسسات والحريات والديمقراطية بشكل لا رجعة فيه.. الأمر الذي يجعلنا ثقافيا ومؤسساتيا ودستوريا مؤهلين بأمان لتعزيز خيارات الجهوية الموسعة واجتهاد فكرة حكم ذاتي ضمن السيادة المغربية أكثر من غيرنا عربيا وإفريقيا..
ذلك ربحنا الأكبر، الأبقى والأرسخ.
2- لماذا ما قبل 31 أكتوبر 2025 ليس هو ما بعده؟
تفاعلا مع منطوق خطاب جلالة الملك محمد السادس ليوم الجمعة 31 أكتوبر دقائق قليلة بعد صدور القرار الأممي رقم 2797 عن مجلس الأمن الدولي، الذي تم فيه بوضوح لا لُبْسَ فيه تبني مخطط مقترح الحكم الذاتي المغربي كخيار وحيد على طاولة الحوار مع أطراف المنازعة تحت السيادة المغربية، بغاية التوصل إلى حل سلمي نهائي للنزاع المفتعل حول صحرائنا المغربية الجنوبية.
إن الغاية من ذلك هي لفت الإنتباه إلى أن القوى الدولية الكبرى وغالبية دول العالم قد تواءمت مع إبداع الحل المقدم كاجتهاد من قبل الدولة المغربية، المتأسس على مرجعية فضلى متصالحة مع دفتر تحملات منظومة القانون الدولي ومبدأ تقرير المصير استنادا على مرجعية آلية حقوق الإنسان بمعناها الكوني، من حيث هي مدخل حيوي حاسم لتحقق فعلي لخيار دولة المؤسسات والديمقراطية. على القدر نفسه الذي هو متصالح مع شروط ضمان الأمن والإستقرار الحيويين إقليميا وجهويا وقاريا عند واحد من أهم المعابر الإستراتيجية للتجارة بالعالم من قيمة مضيق جبل طارق ببعديه المتوسطي والأطلسي.
بهذا المعنى فإن الإجتهاد المغربي متصالح مع انتظاراتٍ متراكبة، فيها مصلحتنا الوطنية القومية السيادية العليا كدولة وكأمة وفيها مصالح شعوب المنطقة في الاستقرار وتوسيع أسباب فرص التنمية والتعاون والتكامل ببعد مغاربي وبُعدٍ غرب إفريقي وبُعدٍ متوسطي أروبي وبُعدٍ أطلسي للأمريكيتين. وأنه أكثر من ذلك اجتهادٌ ديمقراطي جديد من نوعه في كامل مجالنا العربي والإسلامي والإفريقي يقوم على منطق التوافق وليس على منطق الشمولية والإستبداد والتحكم.
بالتالي فإن ما يقدمه الملف المغربي من حيث هو آليةٌ فُضلى للحل السلمي المستدام، يشكل منعطفا في أشكال التدبير السياسي لتجاوز أسباب الأزمات صاعدٌ من الجنوب المعولم، يقع على النقيض من كل التجارب المؤسفة العنيفة لعدد من بؤر التوتر والأزمات بمجالنا الشرق أوسطي والإفريقي. وهذا أمرٌ لا يتحقق سوى للتجارب التنظيمية المالكةُ لدُربةٍ في أشكال ممارسة معنى الدولة كما هو متحقق في التجربة الحضارية للمغاربة بكل التراكم الذي تجره وراءها منذ قرون عَبَرْنَا فيها امتحاناتٍ عدة كان لبعضها فواتير نضالية كبيرة.
نعم، السياسة هي فن الممكن دائما، لكنها هي أيضا خلاصاتُ رصيد التجربة في معنى ممارسة الدولة. التجربةُ التي تجعل خطو بعض الأمم، مثل الأمة المغربية، يكون بحساب التاريخ وبرصانة وهدوء روح البناء وليس مزالق المغامرة..
إن ما تُقدِّمُهُ تجربة المقاومة المغربية لترسيخ حقوقنا المشروعة في استكمال وحدتنا الترابية يشكل مادة مثالية للاعتبار والدراسة والتعلم بالنسبة للآخرين، كل الآخرين، التعلم أن صبر بناء القناعة بعدالة قضيتنا الوطنية الأولى يفرض وجوبا الاستناد على رصيدٍ في التاريخ لمكرمة ممارسة السياسة بأفق التراكم البناء. لأنه كثيرٌ من القضايا العادلة تُخسرُ حين لا تتوفر على مُدافعٍ ومُحامٍ جيد برصيدِ إقناعٍ ممأسسٍ، مفحم، رصينٍ وصلب.
لهذا السبب فإن معنى أن ما قبل 31 أكتوبر 2025 ليس هو ما بعده، أننا كمغاربة قد قدمنا للعالم نموذجا في فن الإقناع بتبني رؤيتنا الإستراتيجية لحل أزمة مفتعلة عبر ترسيخ القناعة أن مكرمة التوافق وليس التصادم هي دوما آلية منتجة بناءة بدون التفريط أبدا في الأساس الصلب الذي هو السيادة كدولة مؤسسات.
3- الخير الكامن في الإستراتيجية المغربية..
إن الخيرَ الكامِنَ في الإستراتيجية المغربية لاقتراح حَلٍّ مقبول، عملي ومتوافق عليه بخصوص ملف صحرائنا المغربية الجنوبية الذي تجاوبت معه هيئة الأمم المتحدة، يمتد إلى ما هو أبعد من مجرد المجال الجغرافي للصحراء، حيث إنه يشمل الأفق الإستراتيجي لتطوير أشكال التدبير العمومية مؤسساتيا بالمغرب ببعد متقدم متصالح مع تحديات القرن 21.
وهذا أمرٌ يُعلي من ميزان قيمة المغرب كدولة ضمن تقاطبات إعادة ترتيب النظام العالمي الجديد بأقطابه الكبار الجدد (خاصة الصين والهند) الذين علينا الانتباه أنهم أقطاب قادمون من خارج المركزية الأروبية الغربية وأنهم صاعدون من الجنوب..
علينا ألا نغفل إذن أن مشروع مقترح الحكم الذاتي المغربي بالصحراء ليس قرارا مزاجيا، معزولا أو أنه ترضيةٌ للبعض أو أنه قد تم تحت الضغط.. لا، لا، إنه ترجمةٌ لمشروع أمة ودولة صاعدة لها دفتر تحملات متكامل الأذرع ولها خارطة طريق مدققة منذ سنوات ضمن خيار للإصلاح متعدد الواجهات..
تكفي العودة إلى دستور 2011، لندرك الأمر بوضوح، خاصة في بابه التاسع بفصوله الإثنى عشر، التي فيها إعادة هيكلة تدبيرية للمجال بالمغرب تُعلي من القرار الجهوي المتقدم المسنود بالشرعية الانتخابية والمالك لسلطة القرار التنفيذي المحلي..
إننا هنا بإزاء إعادة هيكلةٍ شمولية للدولة، بدفتر تحملات ديمقراطية، متصالحة مع شروط منظومة حقوق الإنسان بمرجعيتها العالمية، تضمنُ أشكالاً متقدمةً لحماية الحقوق الاقتصادية والبيئية والثقافية والمجالية واللغوية لكافة التراب الوطني من خلال مشروع مهيكل لإعداد التراب، غايتهُ تسهيل خدمة الإنسان بكل الفاتورة الواجبة لذلك على مستوى ربط المسؤولية بالمحاسبة وتخليق الممارسة التدبيرية وتعزيز آليات الرقابة لتجفيف مصادر الفساد والإفساد..
هذا مشروع وطني هائل انخرطت فيه الدولة المغربية منذ سنوات، لا يُشكلُ مشروع مخطط الحكم الذاتي سوى جزء مؤسساتيا متقدما منه. حيث علينا الانتباه باعتزاز وتقدير أن خطوة مماثلة لا تستطيعها سوى الدول الراسخة التي تخطو بثقة في مسار التطور..
أليس ذلك في العمق ما يخشاه الآخرون من خصومنا؟
أليس لأنهم لا يستطيعون مستوى مؤسساتيا ديمقراطيا تدبيريا مماثلا؟.
بلادنا متصالحةٌ مع دفتر تحملات منظومة النظام العالمي الجديد وهي مؤهلة لتكون بشكل سلسل عضوا فاعلا ومؤثرا ضمن نادي الدول الصاعدة بمؤسساتها الديمقراطية، مما يؤهلها أن تُصبح قاطرة لنموذج تدبيري مؤسساتي متقدم ومبدع ومبتكر من بين دول الجنوب المعولم.
ذلك بالضبط ما يُزعجُ خصومنا لأننا نجري في سباق تنافسي عالمي بأوكسجين رئة مُريحٍ، يسمحُ لخطونا أن يكون في الصفوف المتقدمة ضمن مجالنا المغاربي والغرب إفريقي والغرب متوسطي.
سيكون من الخطأ الإعتقاد إذن أن مشروعنا الوطني للحكم الذاتي قرار مزاجي، معزول أو للترضية. إنه جزءٌ من مشروع وطني أكبر بأفق استراتيجية بناء الدولة المغربية الحديثة. وذلك رهانٌ وتلك معركةٌ قدرنا أن نربحها بروح أهل العزائم.