بقلم أنور الشرقاوي
(ابن الموسيقار الراحل وعازف القانون صالح الشرقي -1923 / 2011 )
في صباح السادس من نونبر 1975، لم تكن المسيرة الخضراء مجرّد زحفٍ سلمي نحو الصحراء، بل كانت انبعاثَ وطنٍ بأكمله يعزف نشيده بأصوات شعبه.
كانت تلك اللحظة أشبه بأوركسترا كبرى، فيها يهتف المغربية بقلوبهم، بينما تتجاوب الجبال والوديان مع نغمة واحدة اسمها الوطن.
اللحن الذي وُلد من رحم التاريخ
في خضمّ هذا الزخم الشعبي، وُلدت أغنية «صوت الحسن ينادي»، كأنّها نفَسٌ جماعي خرج من صدر الأمة.
في ليلة من ليالي أكتوبر 1975، جلس الشاعر فتح الله المغاري يخطّ كلماته على ضوء الإيمان والحماس، بينما كان الوطن يستعدّ لملحمة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً.
ومع طلوع الفجر، أخذ الملحن عبد الله عصامي الريشة والعود، وأدار بين أنامله نغمةً ستبقى خالدة في ضمير المغاربة.
في أقلّ من أربعٍ وعشرين ساعة، كان اللحن قد اكتمل، كأنه نزل من السماء مكتمل البنيان، يفيض صدقاً ودفئاً وعزّة.
الجوق الوطني… موسيقى الدولة ونبض الشعب
حين سمع الجوق الوطني للموسيقى التابع للإذاعة والتلفزة المغربية هذا النداء، لم يتردّد. استنفر عازفيه، وأشعل قاعات التسجيل بالحماسة.
في ليلة واحدة، عُزفت النوتات وسُجّلت الأصوات، وكأنّ المغرب كلّه يُغنّي من خلف الميكروفون.
كانت تلك اللحظة لحظة انصهارٍ بين القيادة والفنانين والشعب.
لم يعد الفن ترفاً ولا الأغنية مجرّد لحن، بل سلاحاً من نور يُرافق زحف السلام إلى الصحراء.
ومن تلك الساعات القصيرة، وُلد نشيد سيغدو جزءاً من هوية الأمة، يتردّد في المدارس، في الإذاعات، وفي كل بيت يرفرف فيه العلم الأحمر.
العيون 1975–1976… المدينة التي غنّت للوطن
وفي الجنوب، في مدينة العيون التي استقبلت أفواج المسيرة، تحوّلت الساحات إلى مسارح مفتوحة.
أحيا الفنانون المغاربة سهرات خالدة، تعانقت فيها الإيقاعات الشعبية مع الأناشيد الوطنية.
من «العيون عينيا» إلى «نداء الصحراء»، كانت الأغاني تُغنّى لا للفرح وحده، بل لتأكيد الانتماء، لترسيخ اليقين بأن المغرب واحدٌ من طنجة إلى الكويرة.
لم تكن تلك الحفلات ترفيهاً، بل صلوات موسيقية تُقال على إيقاع الطبول والقلوب.
موسيقى تصنع الذاكرة
هكذا تحوّلت المسيرة الخضراء إلى لحن خالد، تكتبه الأوتار وتُكمله الحناجر. لم تُسجَّل فقط في كتب التاريخ، بل في ذاكرة الصوت المغربي، في عودٍ يئنّ من الشوق، بين أوثار قانون شجي وفي طفلٍ يردّد النشيد دون أن يدرك أنه يردّد جزءاً من هوية وطنه.
إنها لحظة نادرة حيث يتوحّد الشعب والدولة والفن في مقطوعة واحدة، تُغنّيها الأجيال جيلاً بعد جيل.
فالمسيرة الخضراء ليست فقط حدثاً سياسياً عظيماً… بل سمفونية وطنٍ كتبها التاريخ ولحّنها الحب والفداء للوطن.