شهد المغرب خلال العقدين الأخيرين تحولات اجتماعية وثقافية عميقة، أعادت تشكيل علاقة الأفراد بالمؤسسات، ورسمت خرائط جديدة للمطالب الاجتماعية ولأشكال الفعل العمومي. فقد تبلورت داخل المجتمع ديناميات متعدّدة، بعضها احتجاجي أمام اختلالات العدالة الاجتماعية والمجالية، وبعضها حواري يسعى إلى إنتاج رؤية تفكير جماعي بديلاً عن المقاربات القطاعية أو التقنوية المحضة.
ضمن هذا السياق ظهر مشروع "الطريق الرابع" بوصفه أفقًا اجتماعيًا وثقافيًا ومواطنيًا، لا يدّعي تمثيلًا إيديولوجيًا مغلقًا، ولا يتّخذ شكل تنظيم هرمي كلاسيكي، بل يشتغل كـ مسار معرفي وترافعي وميداني لبناء مغرب المستقبل على أساس قيم المشاركة، العدالة، الكرامة، وبناء المعنى المشترك.
يأتي هذا الجزء من سلسلة مقالاتنا في إطار محاولة فهم تشكّل مشروع "الطريق الرابع"، لا باعتباره حدثًا طارئًا أو مبادرة منفصلة عن سياقها، بل بوصفه ثمرة مسار تراكمي من التحولات الثقافية والحقوقية والمجالية التي شهدها المغرب خلال العقد الأخير. فالرهان هنا لا ينحصر في تتبّع زمني للوقائع، بل في تحليل البُنى المحركة للفعل، وأنماط الوعي، وأشكال التنظيم التي أخذت تتبلور تدريجيًا داخل المجتمع.
وعليه، يهدف هذا الجزء إلى تفكيك الجذور العميقة للمشروع، واستكشاف شروط إمكان ظهوره، وتحديد نسقه المفهومي وسبل تجسّده في الفعل العمومي، باعتباره دينامية تاريخية واجتماعية في طور التشكل المستمر.
1. سياق التحولات الاجتماعية والسياسية بعد 2011
أفرزت السنوات التي تلت 2011 حالة جديدة من الوعي الاجتماعي بالمواطنة وبالحقوق، وبحدود النموذج التنموي القائم. فقد أصبح واضحًا أن:
* المسألة الاجتماعية (التفاوت، البطالة، الاستبعاد، الاغتراب وهشاشة العيش) لم تعد قابلة للحل عبر المقاربات التقنية وحدها.
* العدالة المجالية تحوّلت من مطلبٍ ثانوي إلى شرط بنيوي لإعادة إدماج "الحاشية السفلى" في الدورة الوطنية.
* الثقة بين المواطن والمؤسسات تحتاج إلى إعادة بناء على أسس المشاركة والاعتراف المتبادل بدل العلاقة العمودية التقليدية.
كما برز جيل جديد من الفاعلين:
* نشأ في إطار فضاءات نقاش غير حزبية،
* يعتمد المعرفة والتكوين والتأطير والمبادرات الميدانية بدل الشعارات،
* ويبحث عن مسارات فعل جديدة خارج الثنائية المتجاوزة: المعارضة الاحتجاجية مقابل المشاركة المؤسساتية التقليدية.
من داخل هذا المشهد بدأت تتشكّل النواة الأولى لما سيصبح لاحقًا الطريق الرابع.
2. الديناميات التأسيسية (2016–2020)
مع مطلع 2016، انطلقت سلسلة من التجارب الحوارية والفكرية والميدانية، أبرزها:
1. الجامعة الشعبية مكناس/المغربية: فضاء لتعميم المعرفة وتكريس العدالة المعرفية، كحق أساسي من حقوق الإنسان، بعيدًا عن الاحتكار الأكاديمي والامتياز الثقافي،
2. شبكة قادمون وقادرون – مغرب المستقبل: دينامية اجتماعية مواطنة امتدت إلى عدد كبير من المناطق (56 منطقة)، واشتغلت على قضايا العدالة المجالية، العدالة الضريبية، التنمية المحلية.
3. مختبرات التفكير والحوار التي جمعت مثقفين وباحثين وطلابًا وممارسين ميدانيين حول سؤال المعنى وسبل التغيير العمومي الهادئ: المنتدى الوطني للمدينة، أرضية مرصد الهجرات الدولية وحقوق الإنسان، المقهى الثقافي مكناس...
كانت هذه المبادرات تتقدّم وفق منطق التراكم الهادئ، أي بناء الوعي قبل بناء الخطاب، وبناء الخطاب قبل بناء التنظيم، وبناء التنظيم قبل الانتقال إلى الفعل التأثيري المؤسسي.
وهنا تتضح الطبيعة التراكمية للمسار: فهو لا يقوم على القفز فوق الواقع أو تغييره بشكل فجائي، بل على إعادة بناء تدريجية لشروط إنتاج القرار والنقاش العمومي.
3. من الحراك الميداني إلى بناء المفهوم: ظهور "الطريق الرابع"
مع تراكم التجارب، ظهر وعي مشترك مفاده أن:
* المطلوب ليس مجرد احتجاج على الأعطاب،
* ولا مجرد تحديث إداري من فوق،
* بل تأسيس أفق جديد لبناء الدولة الاجتماعية الفعلية.
هكذا بلور الفاعلون تعبير"الطريق الرابع" باعتباره:
• طريقًا معرفيًا:
يعيد الاعتبار للمعرفة بوصفها قوة للتحرير، والفهم، و التوعية، والتدبير، وليست مجرد ترف ثقافي.
. طريقًا اجتماعيًا:
يستعيد المجال الترابي كمحرك للفعل، بدل مركزية العاصمة وحدها.
. طريقًا حقوقيًا:
يقوم على أن الكرامة ليست مطلبًا أخلاقيًا، بل شرطًا لبناء الثقة العمومية.
. طريقًا ثقافيًا:
يفتح سؤال الهوية في زمن الرقمنة والعولمة على أفق تعددي خلاق.
إنه مسار إعادة تأسيس معنى العيش المشتر في مغرب المستقبل..
4. نموذج الفعل: من التفكير إلى التأثير
استند الطريق الرابع إلى ثلاث آليات عملية عبر الجامعة الشعبية مكناس/ المغربية، التشبيك المجالي، والترافع المؤسسي، من خلال:
* التكوين والتأطير، حلقات النقاش ومساهمات في النقاش العمومي بمناسبة تنظيم مناظرات ولقاءات إقليمية وطنية ودولية، مذكرات ترافعية ( حول النموذج التنموي، ومذكرة حول واقع الصحة بفكيك وجهت للديوان الملكي، بيانات ونداءات حول واقع التفاوتات الاجتماعية بجهة بني ملال، وجهة فاس مكناس، والعديد من مناطق الأطلس المتوسط).
* إنتاج وتعميم المعرفة النقدية، ربط المدن ومغرب الجبل والواحات والسهول والسهوب بمنطق العدالة المجالية، تحويل الاقتراحات إلى تأثير فعلي داخل السياسيات.
بدل ردود الفعل، اعتمد المشروع منطق الفعل المبادر: اقتراح قبل احتجاج، بناء قبل مطالبة.
5. نحو مغرب المستقبل – الرهانات والآفاق
يقترح الطريق الرابع اليوم تصورًا واضحًا لأفق مغرب المستقبل يرتكز على:
1. دولة اجتماعية فعلية تضمن الحق في الخدمات والعدالة في توزيع الثروة والفرص.
2. مجتمع مواطن قادر على صنع المعنى والمشاركة في القرار العمومي.
3. نموذج تنموي مجالي ينطلق من الهامش، لا من المركز فقط.
4. تجديد الثقافة السياسية على أسس الثقة والحوار والمسؤولية المشتركة.
بهذا المعنى، لا يقدم الطريق الرابع وعدًا جاهزًا، بل مسارًا مفتوحًا لبناء المستقبل.
وفي الختام:
• إن الطريق الرابع ليس تنظيمًا ولا شعارًا ولا برنامجًا انتخابيًا، بل زمن جديد في التفكير والعمل؛
* هو انتقال من الحكم على الواقع إلى بنائه، ومن الانتظار إلى المبادرة، ومن الاصطفاف إلى التشارك؛
* إنه تاريخ يُكتب من الأسفل إلى الأعلى، من المواطن إلى المؤسسة، من الهامش إلى المركز، ومن المعرفة إلى السياسة.
فالرهان في النهاية هو بناء المعنى قبل بناء السلطة، وبناء الإنسان قبل بناء الهندسة.
وهذا ما يجعل الطريق الرابع مشروعًا مفتوحًا، قابلًا للكتابة المستمرة من طرف المجتمع نفسه.
يتبع
المصطفى المريزق
مؤسس الطريق الرابع