شكلت قضية الشباب بالنسبة للمهدي بنبركة الذي مرت 60 سنة على اختطافه في 29 أكتوبر 1965 بالعاصمة الفرنسية باريس، رهانا مركزيا في بناء المغرب الجديد، من أجل القطع مع الأعطاب التي خلفها في العديد من الميادين الاستعمار الذي جتم على البلاد منذ سنة 1912.
فالمهدي بنبركة، كان دوما يشدد على ضرورة العناية بالشباب وتأطيره وتوجهيه، ويولي في ذلك أهمية قصوى لما كان يسميه ب"المهام الاجتماعية" باعتبارها أساس العمل السياسي ومحور حركته، فضلا عن الانشغال ب"التربية السياسية"، او ما كان يفضل أن يطلق عليه "التربية الوطنية"، التي كانت تحظى بالحيز الأكبر من اهتماماته اليومية.
وفي هذا الصدد يقول محمد الحيحي ( 1928 – 1998 )، أن صهره المهدى بنبركة، كان يعمل على تكوين الشباب وتنظيمه وفق خطة محكمة ومدروسة منذ عهد الحماية، تأهله للمساهمة بدور فعال في بناء الاستقلال، والانخراط بفعالية في حركة التطوع التي دشنها سنة 1957، بمشروع طريق الوحدة بمشاركة 11 شابا بهدف بناء طريق يربط الشمال الذي كانت تحتله اسبانيا الجنوب الذي كان مستعمرا من فرنسا.
مشروع للشباب
لم يكن الهدف من طريق الوحدة الذي لم يمكن مشروعا حكوميا، هو قيام الشباب من مختلف مناطق المغرب، ولمدة ثلاثة أشهر، بشق طريق طولها 60 كلم وهي العملية التي كان بمقدور الإدارة أن تتولاه، بل كان الهدف بناء الانسان لتشييد دعائم المغرب الجديد، فكان مشروعا وطنيا رائدا، من بنات أفكار المهدي بن بركة، الذي كان يقول عنه " نحن نبنى الطريق والطريق تبنينا".
إن الهدف كان أكبر وأعمق من عملية البناء الطريق ، بل بالرغبة في أن يحتلهذا المشروع مكانته ضمن حملة وطنية لتعبئة القوى الحية في البلاد من أجل بناء المغرب الحديث، كما جاء رسالة المهدي بن بركة الى الملك الراحل محمد الخامس خلال تلك الفترة، حينها، مقترحا تنفيذ مشروع طريق الوحدة عبر العمل التطوعي للشباب، والذى هو قبل كل شيء مدرسة ستخرج الطلائع من صفوف جماهير الشباب المتطوع لبناء الاستقلال.
فطريق الوحد المشروع الضخم الذي أصبح مدرسة نموذجية للخدمة المدنية الوطنية، وساهم بعد ذلك في خلق عدد من المشاريع التطوعية الهادفة في عدد من مناطق البلاد، كما كان يحكى محمدالحيحي مربي الأجيال.
بنبركة يمينا والحيحي في الوسط وعبد السلام بناني يسارا
نضال متجدد
ووفاء لذاكرة مؤسسها في ماي سنة 1956، وتكريما لجليل أعماله خاصة في مجال الشباب والعمل الجمعوي التطوعي، ، نظمت الجمعية المغربية لتربية الشبيبة، ندوة بمناسبة ذكرى مرور 40 سنة على إحداثها، تحت شعار ” المهدي بن بركة .. نشاط دائب ومتجدد من أجل خدمة البلاد“، احتضنها في يونيو 1996 المركز العام لحزب الاستقلال بشارع ابن تومرت وسط مدينة الرباط، بمشاركة فعاليات فكرية وسياسية وجمعوية وإعلامية.آنذاك لم يكن أشد المتفائلين في المكتب المركزي لجمعية لاميج، أن يتصور تنظيم هذا اللقاء، حول المهدي بنبركة بمقر حزب الاستقلال، بعدما غادره منذ سنة 1959، ليؤسس رفقة آخرين هيئة سياسية على يسار حزب علال الفاسي، تحت اسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وذلك بعد المرور بتجربة " الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال” أو كان ما عرف خلال تلك المرحلة ب“حركة 25 يناير“.
من اليمين محمد الحيحي ومحمد السملالي وفتح الله ولعلو وعبداللطيف بناني
ذاكرة حية
محمد الحيحي عبر في افتتاح هذه الندوة عن سعادة وفخر واعتزاز الجمعية المغربية لتربية الشبيبة، بإقامة هذا الحفل بنفس هذا المكان، الذي كان احتضن مؤتمر الجمعية التأسيسي يومي 19 و 20 ماي 1956، والجلسة الافتتاحية لمؤتمرها الثالث في يناير1958، بعدما احتضن،أنشطة كبرى، مثل المشروع الوطني الضخم طريق الوحدة.
لقد كانت ندوة جمعية لاميج، محملة بالرسائل والدلالات والرموز والوفاء، قدمت خلالها شهادات حول المهدي بنبركة الذي تعد " أخطر مؤامرة واجهها وهو شهيد : هي مؤامرة النسيان والتجاهل .. لكنها فشلت“، كما يرى الكاتب الصحافي عبد اللطيف جبرو ( 1939 – 2023 ) خلال هذا اللقاء الذي أشاد فيه كذلك الجامعي والسياسي فتح الله ولعلو بمبادرة بربط المنظمين الذكرى الأربعين للجمعية المغربية لتربية الشبيبة، بالمهدي بن بركة.
الكتاب المدرسي
وهكذا فإن من المهام الأساسية في هذه المرحلة، محاربة النسيان - حسب ولعلو - الذي أضاف: " علينا أن لا نترك أي طفل أو شاب لا يعرف المهدي بنبركة الذى يجب أن يدخل الى الكتاب المدرسي كما هو الشأن بالنسبة للوطنيين الآخرين، فكل واحد أعطى شيئا لهذا البلد، ينبغي أن يبقى حاضرا في ذاكرتنا".
لكن "إننا في المغرب ننسى الدور التربوي والبيداغوجي للمهدي بنبركة الذي كان رجل ذا رؤية، وأن من يرى فيه الرجل السياسي فقط، لم يقيم مجهوده على ما يرام، إنه كان رجلا بيداغوجيا..."، كما سجل عالم المستقبليات المهدى المنجرة ( 1933 – 2014 ) في شهادته بالندوة مضيفا بأن " الذاكرة مهمة جدا.. وأن التنمية هي قبل كل شيء الاهتمام بالذاكرة وأن التخلف هو اهمال للذاكرة، وعدم الاهتمام بها وعدم إحداث التراكم.
فالكل كان يعرف كيف أن المهدي بن بركة، يتعامل مع الأمور المادية، لذلك كان قويا، ولم يجد أحد أي طريقة لشرائه.. وكان واعيا بأن الخطر الذي يهددنا موجود بيننا .. كما أنه قبل أن نواجه الاستعمار يجب أن نتحرر" يقول صاحب مؤلف " الحرب الحضارية الأولى".
العناية بالشباب
لكن هذه " المؤامرة، وإن فشلت" على حد قول عبداللطيف جبرو، لكنها تظل رغم ، قضية تنتظر كشف حقيقتها التي صنفت ضمن حالات الاختفاء القسري التي يجهل مصيرها، كما جاء في التقرير الختامي لهيئة الانصاف والمصالحة التي أوصت ب"بذل كافة جهود للتحرى حولها وضمن هذه الحالات قضية المهدي بنبركة الذي تعرض للاختطاف في 29 أكتوبر 1965 بالعاصمة الفرنسية".
الأهمية التي كان يوليها المهدي بنبركة للشباب، يقول علي يعته ( ) الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية الأسبق إن ما فعله المهدي معي، فعله مع المئات من الشبان : أعانهم وأرشدهم وقادهم في طريق الكفاح والنجاح" وذلك في اطار مساهمته في ملف بمناسبة الذكرى 30 لاختطاف المهدي بن بركة، نشرته جريدة " الاتحاد الاشتراكي" في عددها الصادر في 28 أكتوبر سنة 1995.
ماض له جدوى
وفي ذات الملف ذهب الصحافي العربي المساري (1936-2015 ) في مقال بعنوان " ثلاثون سنة ماض له جدوى"، الى منحى آخر، حينما كتب في مستهله، " يطرح اختفاء المهدي بنبركة في أكتوبر 1965، سؤالا اجرائيا، هل تجوز مواجهة معارض بطريقة أخرى غير مواجهة أفكاره بأفكار تجادله في المحتوى والأسلوب.
سؤالا آخر يمكن أن يتولد عن هذا أكثر راهنية، بحكم الرجل ينتمى الى فترة وإلى فكر تفصلنا عنه ثلاثة عقود، مالذي يمثله ذلك الفكر وتلك الفترة من حياة المغرب والعالم العهربي والعالم الثالث ومن حياة العالم"، يضيف المساري الذي يوضح أن الأمر يتعلق بالنسبة له،ب"أسئلة شاب كان في السنة الثانية من حملة بطاقة حزب الاستقلال ( في 65 ).
"ولعل ما يهم أكثر من غيره، هو أن نستعيد الذاكرة..ولا شك في النهاية أن الستينات كانت فترة متوهجة، مليئة بالأحلام والمشاريع، وكانت مصحوبة بأخطاء ونكسات. وهي في المحصلة ماض له جدوى على الأقل نحن على بينة من أخطائنا، ماض لم ينته ما وال قائما بقضاياه وبأوضاعه.." المساري الكاتب العام للنقابة الوطنية للصحافة المغربية ما بين 1993 و1998.
بيد أنه يمكن أن نطرح سؤالا في الذكرى 60 لاختطاف المهدي بنبركة، يتعلق بالاجيال الصاعدة، إذا كان شباب مغرب بداية الاستقلال، قد اجتمع لتشييد طريق الوحدة عبر التطوع، فأي مشروع، يمكن أن يجتمع ويتوحد حوله شباب اليوم ،أخذا بعين الاعتبار المرحلة التي نعيشها بسياقاتها وتحولاتها وبأسئلتها الحارقة في ظل المتغيرات التكنولوجية ؟.