محمد مسعاد: أنا والصحراء

محمد مسعاد: أنا والصحراء
أستعيد الآن، كأن الذاكرة تصلّي في صمتها، وجه أبي – رحمة الله عليه – وهو يعود من المسيرة الخضراء.
كان الغبار يلتصق بجبينه كإكليل، وكان الضوء يسكن في عينيه كأنهما شرفتان على الوطن.
كنت في الثامنة من عمري، صغيرًا بما يكفي لأرى العالم من قامته العالية، وكبيرًا بما يكفي لأفهم أن الرمل ليس جغرافيا، بل نَسَبٌ روحيّ، وأن الصحراء، حين تنادي، لا تنادي المكان، بل الدم الذي يسري فينا منذ البدء.
قال لي أبي، بصوتٍ يشبه ارتجاف النشيد:
«الصحراء ليست مكانًا، إنها جزء من الروح، منّا وإلينا.»
منذ ذلك اليوم، لم أعد أرى الرمل كما يراه الآخرون.
صار الرمل كتابًا أقرأ فيه نفسي، وأسمع فيه أنين الذاكرة حين تفقد أبناءها.
ومضت الأعوام، نصف قرنٍ من السؤال والتيه، من محاولةٍ لتفكيك “أنا” و“نحن”،
من سعيٍ لأن أجد في ضياع المعنى ما يبرّر الحنين.
أكتب اليوم كما لو أنني أفتّش عن وجهي في مرآة الرمل.
أتحسس أثر الكلمة كما يفعل الحائر في دهشة الكشف،
أعيد ترتيب الذاكرة في مرايا الآخر، وأتساءل بصوتٍ خافتٍ يشبه الدعاء:
من أكون حين أنطق اسم الصحراء؟
هل أنا المتكلّم الذي يصنعها باللغة، أم الابن الذي وُلد من رحمها؟
هل الصحراء وطن، أم استعارة نلوذ بها من انقسام المعنى؟
أم هي ذلك الحنين الأبدي الذي يربط الأرض بالسماء، والمكان بالزمان، والإنسان بالإنسان؟
لكن السؤال، مهما تعدّد، لا يلغي النداء، بل يمنحه نبرته الأصفى:
إلى إخواني في مخيمات تندوف، أقول: عودوا.
عودوا إلى الوطن، فالرمل لم ينسَ خطاكم، والريح ما زالت تحفظ أسماءكم.
عودوا بكرامة، فالأرض لا تغلق ذراعيها، والوطن لا يسأل عن التاريخ حين يحتضن أبناءه.
لا أحد يُحاسَب على حلمٍ طال أمده، بل يُكافأ على شجاعة العودة إليه.
وللجزائر، الجارة التي نحبها رغم رمال السياسة وظلال التاريخ، أقول:
تعقّلي يا أخت الصحراء.
فالانتصار ليس أن يُهزم الآخر، بل أن نلتقي في منتصف المعنى،
على طاولةٍ واحدةٍ تُعيد للذاكرة صوتها وللأرض سلامها.
لقد أكل هذا الصراع من أعمارنا ما يكفي،
واقتات على أحلامنا، على مدارسنا، على طرقنا المكسّرة.
آن لنا أن نبني خيمة للحوار بدل أن نحفر خندقًا جديدًا في الرمل.
أن نربح معًا السلام بدل أن نخسر معًا الغد.
أكتب كإنسانٍ يسير في درب أبي، كابنٍ لتلك المسيرة التي لم تنتهِ بعد.
أكتب كمن رأى في الرمل أثر الله، وفي الوطن معنى الصبر،
وفي الصحراء سرًّا لا يُفكّ إلا بالتواضع أمامها.
فالصحراء، حين تُنصت لها، لا تصرخ، بل تهمس كصوفيةٍ في لحظة فناء: "من رجع، ربح الوجود كلّه".