 
  
  بلغت السينما الحديثة، في زمن ما بعد العولمة، حدًّا من الامتلاء البصري جعل الصورة تفيض عن حاجتها. الألوان مشبعة، الأصوات متداخلة، الإيقاع محموم، والمشاهد تتوالى بسرعةٍ تُخفي خواءها الداخلي.
لم تعد الصورة تروي شيئًا، بل تستهلك نفسها في دورةٍ لا تنتهي من الإثارة. هذا "الامتلاء" ليس علامة غنى، بل دليل على الإنهاك: العالم يملأ الشاشات كي لا يرى فراغه الداخلي.
يمكننا أن نرى السينما التأملية بوصفها ردّ فعل على هذا "الامتلاء" المفرط للسينما المقابلة، لكنّها ليست ردًّا صاخبًا أو نقيضًا مباشرًا. اختيار الصمت بدل الجدل.
في زمنٍ تتسابق فيه الشاشات على الإبهار، تصبح الصورة سلعةً متخمة بنفسها، تفيض بالمؤثرات،
حتى تغدو الوفرة قناعًا يخفي العجز عن الرؤية.
لقد بلغ الامتلاء البصري درجة من التضخّم جعلت المتفرّج عاجزًا عن الإصغاء لما وراء الصورة،
في مواجهة هذا الطوفان البصري، نشأت السينما التأملية — لا كموقفٍ تقني أو مذهبي، بل كـ "حسٍّ روحيٍّ" جديد يرى في النقص اكتمالًا، وفي الصمت امتلاءً آخر. فإذا كانت السينما الاستهلاكية تصرخ لتُقنع، فهذا النوع من السينما يهمس ليوقظ.
السينما التأملية ليست "نوعًا" فنيًا ولا مدرسة مغلقة، بل نظرة أخرى إلى العالم:
• تُحوِّل الواقع إلى ذكرٍ بصري؛
• تستبدل الإثارة بـ "السكينة"، والحدث بـ "الحضور"؛
• تسعى إلى كشف الباطن عبر أشياء يومية: طريقٌ ترابي، وجهٌ محفور، ضوءُ غروب، ريحٌ على عشب.
-مرتكزاتها: زمنٌ بطيء، صمتٌ مُفصح، ضوءٌ طبيعي، اقتصادٌ في العلامات، نهايات مفتوحة.
-موضوعاتها الأثيرة: الرحلة، البرزخ، المحو/الفناء، الذاكرة، الجسد جرحًا ونعمة.
_أدواتها الجمالية (من ناحية الشكل):
• الزمن: اللقطة الطويلة/التمهّل (كيارستمي، تاركوفسكي، بيلا تار).
• الصمت: حقلٌ دلاليٌّ قائم بذاته (يومُ الدين، طعم الكرز، The Tree of Life).
• الضوء: طبيعي/متقشِّف، يبدّد الديكور ويُعلي الحضور (مالِك، كوارون في Roma).
• المكان كذاكرة: الصحراء/البيت/القبو بوصفها شخصيات (ناصر خمير، Farha).
• الوجه: أيقونة، أثرُ الزمن هو المعنى.
• الاختزال السردي: الحكاية «جسر» نحو التجلي، لا غاية مكتفية.
هي سينما المحو لا سينما الإثبات—تُنقّي كي يظهر الخفيّ.
_تيماتها الكبرى:
1. الرحلة: طريقٌ خارجي = مسافة داخلية.
2. البرزخ: القبر/القبو/الصحراء—عتبات بين عالمين.
3. الجسد: جرحٌ حامل للنور؛ الألم وسيطُ نعمة.
4. الطفل: مرآةُ النقاء (مجيدي/لبكي/مالِك/شوقي).
5. العناصر: الماء/الهواء/النار/التراب رموزٌ للعبور والتطهير.
6. النهاية المفتوحة: استدعاء لا «خلاصة»؛ مشاهدةٌ تُستكمل في ذهن المتفرّج.
من هنا يأتي جوهرها:
فهي ردّ فعلٍ هادئ لا على التقنية، بل على فقدان المعنى وسط الصخب.
إنها لا تهاجم الامتلاء بضجيجٍ جديد، بل تنقّيه بالصمت.
حين تختزل الحركة، وتترك للصمت أن يتكلّم، فهي تفتح الباب لظهور البعد الذي غاب في ضجيج الواقعية الاستعراضية.
في أفلام كيارستمي وتاركوفسكي وشوقي، الفراغ ليس نقصًا بل شرط للرؤية:
اللقطة الطويلة هي فسحة لتأمّل الزمن،
الصحراء ليست خواءً بل محرابٌ للتطهّر،
والصمت ليس سكوتًا بل لغة يمرّ عبرها الو
هكذا يتحوّل «الفراغ» إلى قيمة جمالية وروحية في آنٍ واحد: هو احتجاج ناعم على الغزارة التي تُعمي، وتذكير بأن الفن لا يكتمل إلا حين يتخلّى عن فائضه.
فالإضاءة الحقيقية لا تأتي من كثرة المصابيح، بل من ومضةٍ صغيرةٍ في عتمةٍ صافية.
فمثلا فيلم "يوم الدين" للمخرج أبي بكر شوقي، هو ليس عن “الفقر” ولا عن “المرض” ولا حتى عن “الآخر الاجتماعي”، بل عن رحلة الروح حين تتحرّر من نظرة الآخرين.
الوجوه فيه محفورة بالزمن، كالأيقونات. الكاميرا لا تلتقط الملامح، بل الأثر: أثر الألم، أثر الانتظار، أثر الرضا.
بشّاي نفسه ليس بطلًا بالمعنى الدرامي، بل “سالك” وعابر، ورفيقه الطفل ليس سوى “الظلّ النقي” الذي يذكّره بأن كل مسافة تُقطع في الخارج إنما هي انعكاس لمسافةٍ داخلية.
الفيلم كلّه مبني على بنية الرحلة الصوفية:
من العزلة (المستعمرة القديمة حيث يعيش المرضى) إلى الانكشاف (العودة إلى العالم)، ثم إلى “المحو” الرمزي في النهاية — حيث لا نجد خلاصًا تقليديًا، بل سكينة صافية. الطريق هنا ليس خطًّا دراميًا، بل دائرة تبدأ وتنتهي في نوع من الوعي الساكن. يمكن أن نقرأ هذا الفيلم: كرحلة خروج من الظلمة نحو نورٍ داخليّ، بلا معجزات، فقط عبر القبول العميق بالهشاشة.
تلتقي هذه الأفلام في جعل الصمت بطلًا خفيًّا:
الصمت عند كيارستمي لغة الفكر قبل أن يُصاغ كلامًا، وعند تاركوفسكي مقام إيماني، في The Tree of Life لمالِك، الصمت بين المشاهد يربط الوجود بالفناء، وفي "يوم الدين" يصبح الصمت شكلًا من أشكال التواضع: علامة على القبول — قبول الجرح، وقبول الوجود كما هو.
المخرج يترك الحياة تتكلم من تلقاء نفسها. إنه صمتٌ يُعيد الاعتبار للسكينة، ويمنحنا متعة الرؤية من دون تفسير. الصمت في الفيلم ليس غيابًا للكلام، بل لغةٌ أخرى.
الإيقاع البطيء، الإطار الثابت، غياب الموسيقى الزخرفية — كلها تقنيات تقرّب الفيلم من تجربة التقشف البصري. كأن المخرج يذكّرنا بأن الجمال الحقيقي ليس في المشهد الملوّن، بل في الضوء الذي يتسرّب إلى الروح من بين الفجوات.
بهذا المعنى، يمكن اعتبار يوم الدين نوعًا من التجربة الزهدية السينمائية، لا تروي الهامش بل تجعله مصدرًا للرؤية. هي ليست سينما عن العالم، بل من العالم — من قلب ما يتجاهله الجميع.____
كيارستمي هو الآخر يجعل الصمت بطل الفيلم الحقيقي. لا موسيقى، لا انفعال، لا إجابات نهائية.
الحوار بين بديعي والشخصيات التي يلتقيها هو أقرب إلى ذكرٍ: سؤالٌ يتردّد في القلب أكثر مما يُقال باللسان.
في النهاية، حين ينزل الليل ويستلقي البطل في القبر، تتوقف القصة — وتبدأ السينما في التأمل بذاتها:
ينكسر الوهم الواقعي، نرى فريق التصوير، نسمع أصوات العصافير. الموت ليس نهاية، بل انكشافٌ على الحضور الذي كان دائمًا هناك. هذه النهاية تشبه نهاية يوم الدين في بعدها الوجودي:
كلا الفيلمين يترك المشاهد على أعتاب الصمت، كأنهما يقولان: “الحياة لا تُروى، بل تُدرك حين تتوقف الحكاية.”
عند كيارستمي، كما عند أبو بكر شوقي في "يوم الدين"، الصحراء ليست فراغًا جغرافيًا، بل فراغٌ كونيّ يسمح للروح بأن تُسمَع.
في "طعم الكرز"، يتحرك السيد بديعي في فضاءٍ بلا حدود، يبحث عن شخصٍ يدفنه بعد انتحاره. لكننا نكتشف أن ما يبحث عنه ليس “حفّار قبر”، بل شاهد إنساني يقبل وجوده حتى في قراره بالموت.
كلّ من يلتقيه (الجندي، الطالب، عامل المتحف) هو وجه من وجوه الذات، أو مرآة لمرحلةٍ من وعيه.
في "يوم الدين"، الصحراء تلعب الدور نفسه، لكن بدل الموت الجسدي نجد موتًا اجتماعيًا سابقًا للحياة. بشّاي، الذي لفظه المجتمع، يسافر ليجد معنى الوجود من جديد.
كلا البطلين يسير في الفراغ نفسه، لكن أحدهما يريد أن يخرج من الحياة، والآخر يريد أن يدخلها من جديد. الصحراء في "يوم الدين" ليست خلفية واقعية، بل رمز للفراغ الضروري قبل الامتلاء.
إنها الامتداد الذي يجرّد الإنسان من كل هوية اجتماعية، لا ألقاب ولا أدوار.
البطل (بشّاي) يسير في فضاء مفتوح لا نهاية له، لا بحثًا عن بيت أو وطن، بل عن وجهٍ جديد للوجود.
الصمت، الضوء اللافح، السكون — كلّها إشارات إلى أن الفيلم يتحرك في مستوى “الرؤية الباطنية”، لا في السرد الواقعي كأن الصحراء في الفيلمين هي “البرزخ” بين الوجودين.
الجسد كحالة من الفناء والسكينة:
في السينما التأملية، الجسد ليس موضوعًا للفرجة، بل حاملاً للنفس.
في The Whale (دارين أرونوفسكي)، الجسد المنهك يواجه انحلال الروح الغربية.
في "طعم الكرز"، الجسد مرهق، متعب من الثقل المادي للعالم.
أما في "يوم الدين"، فالجسد مشوّه ومنبوذ، لكنه يحمل نور البقاء.
كلا البطلين يواجهان حدود الجسد بصفاءٍ غير درامي.
ليسا مأساويين، بل مترويان.
وهذا ما يجعل الفيلمين متجاوزين للحزن:
فالموت والجمال، الألم والقبول، كلها تصبح في النهاية وجهين لحقيقة واحدة.
في "يوم الدين"، جسد البطل، بعاهاته وجروحه، يتحول إلى رمز للنجاة. كل ضعفٍ فيه يصبح نورًا صغيرًا في صحراء كبيرة.
وفي أعمال مالك وتاركوفسكي، الضوء نفسه يتحول إلى كائنٍ روحيّ: يتسرّب من بين الأغصان أو ينعكس على الماء كأنه أثر حضور في غياب.
هكذا تتحول التقنية إلى طقسٍ بصريٍّ:
الكاميرا لا تراقب، بل تسجد.
فـ "طعم الكرز" و"يوم الدين" يلتقيان في العمق أكثر مما نتصوّر: كلاهما ليس عن الموت، بل عن الوعي بالموت كطريق نحو تذوّق الحياة.
وكلاهما يعبّر عن هذا الوعي عبر جمالية تأملية، تُزيل الحواجز بين الواقع والرؤية الداخلية.
كلا الفيلمين ينتمي إلى سينما المحو. ليست هناك دراما كبرى، بل امّحاء للحدث لصالح الحضور.
الصورة خالية من كل زخرف، الإطار يصبح أشبه بـ “محراب بصري”، والحركة تذوب في الإيقاع الطبيعي للضوء والغبار.
عند كيارستمي كما عند شوقي، الجمال في ما يحدث بين الإطار والمُتفرّج، في الوعي الذي يتولّد من التأمل، لا من الانفعال.
لو غصنا قليلا، لرأينا أن "طعم الكرز" و"يوم الدين" يلتقيان في نقطة ما بعد الواقعية. هما يستخدمان الواقع ليعبرا منه إلى تجربة روحانية غير معلنة.
في "طعم الكرز"، الواقعية المفرطة (الطريق، الغبار، الصمت) تنفتح فجأة على انكشاف ماورائي.
وفي "يوم الدين"، الواقعية الاجتماعية تتحوّل إلى رمزية للبعث الداخلي.
كلا الفيلمين يعلّمنا شيئًا بسيطًا وعميقًا:
أن السينما يمكن أن تكون طريقًا نحو السكينة، وأن الصحراء ليست قفرًا، بل فضاءٌ للنعمة.
هذا الفراغ الجمالي ليس نزعة رومانسية، بل موقفٌ حضاريٌّ نقدي تجاه حضارة الامتلاء.
فحين يختار المخرج أن يُبطئ الإيقاع ويترك اللقطة تستمر، فهو يُعلن تمرّده على منطق السوق الذي يُسعّر الزمن بالدولار.
كل ثانيةٍ إضافية من الصمت هي استعادة لحقّ الإنسان في التأمل. إنها مقاومة بلا شعارات، لكنها أكثر راديكالية من أي خطاب سياسي، لأنها تُعيدنا إلى جوهر الإنسان قبل أن يُختزل في “مستهلك”.
يمكن القول إن السينما الهامشية هي زهدٌ بصريٌّ في عصر الاستعراض. ترفض الامتلاء لا ازدراءً له، بل لأنها تؤمن أن النور لا يُرى إلا في العتمة.
في أفلام كيارستمي، أبو بكر شوقي، تاركوفسكي، ومالك، الفراغ ليس غيابًا، بل مجال ظهور المعنى.
اللقطة الطويلة عند كيارستمي، مثل الطريق في "طعم الكرز"، هي مساحة لتأمّل الزمن، لا أداة للسرد. الصحراء في "يوم الدين" ليست ديكورًا للفقر، بل برزخٌ بين الموت والحياة، تسير فيها الكاميرا بخطى الحاجّ، لا بخطى السائح. وفي Stalker لتاركوفسكي، يتحوّل الفراغ الموحش إلى منطقةٍ مقدّسة، حيث يُختبر الوعي بالصمت لا بالكلام.
الفراغ هنا ليس ضد الامتلاء، بل طريقٌ لتجاوزه. لأنه فقط في الصمت يمكن سماع المعنى الحقيقي للوجود. هذا النوع من الجمال ليس جمال اللفظ ولا الزينة، بل الجمال الذي يسكن المعنى نفسه، ذلك الذي يشبه سكون الضوء على وجهٍ صامت في نهاية فيلمٍ يقول ليست هناك نهاية.
في جوهرها، سينما الاعتدال تعيد تعريف الجمال نفسه: الجمال ليس في الاكتمال، بل في الشرخ الذي يدخل منه الضوء.
ترى هذه السينما أن الفراغ شرط للرؤية. هي تدعونا لأن نرى لا “ما يحدث” على الشاشة، بل ما يحدث فينا ونحن ننظر.
من "طعم الكرز" إلى Stalker إلى "يوم الدين"، تذكّرنا هذه الأفلام بأن الصورة لا تكتمل بما يظهر فيها، بل بما تستدعيه فينا من صمتٍ داخليٍّ ووعيٍ مضيء.
في السينما التجارية، الضوء أداة لإبراز الممثل والمشهد؛ أما هنا، فهو كائنٌ يمرّ عبر الأشياء ليكشف حضورًا لا يُرى.
عند تاركوفسكي، الضوء ليس ما يُظهر الصورة، بل ما يُطهّرها. وفي أفلام مالِك، الضوء هو النعمة: حضور الكون كله في أدقّ التفاصيل. كيارستمي في" طعم الكرز" و "سوف تحملنا الريح"، يجعل الضوء يأتي من باطن الأرض، من غبار الطريق أو انعكاس الغروب.
إنه ضوءٌ متعب، غير نقيّ، لكنه بشريّ —كأن الحقيقة لا تسكن البياض التام، بل البهتان اللطيف.
في يوم الدين، الضوء ليس رمزيًا فقط، بل هو وسيلة معرفةٍ بالذات:
حين يسير بشّاي في الصحراء، يتبدّل الضوء من القسوة إلى الحنوّ، كما لو أن الشمس نفسها تمرّ برحلة تطهير موازية لرحلته.
الظلال هنا ليست عتمة، بل ذاكرة الضوء وهو يتعلّم. الضوء لا معنى له من دون ظله. النور الكامل لا يُحتمل، لذلك تحتاج السينما التأملية إلى ظلّ يُعيد التوازن:
كوجهٍ مضيءنصفه ونصفه الآخر غارق في الغياب، كأن الفيلم يقول: الحقّ يُدرك بالتمازج لا بالتفرقة.
في أفلام مثل Roma أو "باب عزيز"، ينتقل الضوء على وجوه البشر كأنه وحيٌ صغير:
لا يثبُت، لا يملك، بل يمرّ. إنه ما يجعل من الوجه أيقونة، وما يمنح الإنسان تلك اللحظة التي يبدو فيها أكبر من نفسه.
حين ينعكس الضوء على الماء في Nostalghia أو في Transes، نشعر أن العالم يردد آية قديمة، أن الضوء يسبّح بلغته الخاصة.
إنها صلاة الصورة — ليست دينية بالمعنى الطقوسي، بل إنصاتٌ لجمالٍ أزليّ يتجدّد كل لحظة.
السياسة الخفية للجماليات:
هذه السينما تُحرِّر المعنى من «المركز» دون شعارات:
• لا تقدّم الهامش «موضوعًا اجتماعيًا»، بل مصدرًا للرؤية.
• تُبطئ الزمن في وجه اقتصاد السرعة (سياسة للوقت).
• تُعيد توزيع الضوء على وجوهٍ مُقصاة (عدالة للظهور).
هي مقاومة هادئة تخلخل سرديات القوة دون أن تُحوّل الفيلم إلى بيان.
سواء كان المركز الغربي أو الفكري أو السياسي، فـ "طعم الكرز" لا يطلب تصفيق الغرب، و"يوم الدين" لا ينتظر اعتراف المدينة. كلٌّ منهما يخلق كونه الذاتي، يوجّه الخطاب إلى الإنسان في جوهره، لا إلى العالم كمشهد. وبذلك، تتحول السينما إلى فعل مقاومة روحية:
مقاومة ضد التبسيط، ضد التشييء، ضد الاستهلاك.
هي ليست سينما “الهامش”، بل سينما الوجود المجرّد من الأقنعة.
في عالمٍ يغرق في ضجيج الصور، تأتي هذه السينما كاستراحةٍ كونية، كمن يُغلق عينيه ليرى أبعد.
فهي تمرين على الإصغاء إلى ما بعد الكلام. فالفنّ، في نهاية المطاف، لا يخلّصنا بكثرة ما يُظهر،
بل بما يجرؤ على تركه غائبًا.
هي ليست هروبًا من الواقع، بل تهذيبٌ للحسّ كي يرى الواقع على حقيقته. تنتزع المعنى من امتلاك الصورة إلى مشاركتها، ومن الصراخ إلى الهمس، ومن الحدث إلى الحضور.
وفي عالمٍ تُهيمن عليه سرعات السوق وصُور المركز، تمنحنا هذه السينما حقًّا بسيطًا وجليلًا:
أن نقف لحظة، نُصغي للنور، ونعبر في تجلي الفجر.
ما تقدمه هذه الأفلام مجتمعة هو "أطياف المقاومة الجمالية". إنها تثبت أنه لا توجد استراتيجية واحدة لمواجهة سطوة المركز:
• "كفرناحوم"(نادين لبكي) تواجه بالصدمة والواقع المباشر.
• "روما" (ألفونسو كوارون)، تواجه بالحميمية وإضفاء الطابع الملحمي على اليومي.
• "فهدة"(دارين سلام) تواجه بالحبس وتحويل التاريخ إلى تجربة جسدية.
• "أتلانتيك"(ماتي ديوب) تواجه بالسحر والأشباح كحقيقة سياسية.
• "يوم الدين" (أبو بكر شوقي) يواجه بالتجريد والصوفية والانسحاب من اللعنة. وغيرها.
جميعها تشترك في رفضها أن تكون موضوعًا سلبيًا للرؤية. جميعها تخلق "لغتها الجديدة" لتقول حقها في أن تُرى كما تريد هي، لا كما يريد المركز أن يراها. في هذه السينما، لم يعد الهامش موقعًا جغرافيًا أو اجتماعيًا فحسب، بل أصبح موقفًا جماليًا وأخلاقيًا يرفض الانصياع.
هذه الأفلام تمثل مشاريع جمالية وسياسية متباينة، لكنها تتحد في رفضها أن تكون مجرد موضوع للعرض، وتسعى بدلاً من ذلك لاستعادة الحق في السرد والتمثيل. أجمل ما فيها هو رفضها للتموضع ضمن أي سردية يفرضها المركز. تقدّم رؤية لا يطلب من أحد أن يراها بعين الشفقة أو الفضول.
إنه الهامش وقد صار مرآة للكينونة، هامشٌ يملك ترف التأمل لأنه لم يعد ينتظر اعترافًا من أحد.