المصطفى تكاني: أين الأغاني اللواتي أجَّـجَـت قلبي؟

المصطفى تكاني: أين الأغاني اللواتي أجَّـجَـت قلبي؟ المصطفى تكاني
طـرِبنا زمناً لمجموعة من الأغاني التي أيقظت عواطفنا الجميلة ؛ في حياة كل شاب وشابة . تعُـود ذكريات الزمن الجميل لنردد معه تلك الأغاني المؤداة من قبل أهرامات المطربين والمطربات ؛ في الفترة التي عشناها زمنا مع المذياع . ولفظ الطرب تعني في قواميس اللغة العربية أنه : " خِـفَّـة وهــزَّة تعتري النفس بفرح أو حزن أو ارتياح ... ويمكن أن يشير أيضا إلى الغناء وما يشبهه مما يحرك في النفس شعور الطرب " ؛ لأن مصدر لفظ الطرب ارتياح النفس لفرح أو حزن أو صوت جميل " .
 
لكني لا أجزم وأعمم القول أن طرب اليوم لا يؤدي المدلول نفسه حول ما يعتري النفس من ارتياح .. إن بعضاً من " الأغاني " لا تُـطرب أبدا بل تدعم مسار الحزن في النفس حول ما صارت عليه الكثير من أغاني اليوم التي تُـغنَّـى ولا تُـغْـنِـي النفس والروح .
 
حين تسمع بعضا من الأغاني المغربية التاليـة ؛ وكأنها موجهة لكل شاب وشابة ؛ لتُـغْـني عواطفه وعواطفهـا ؛ أين من مثل : " حتى فات الفوت " [ عزيز علينا ] لماجدة عبد الوهاب ، أو " يمكن فايت لي شفتك " ، أو " سرقوه قلبي " لسميرة بنسعيد ، أو " يــالغادي في الطوموبيل " أو " اديني معاك " أو " أجي نتسالمو " لعبد الوهاب الدكالي ، أو " الماء يجري قدامي [ عطشانة " ] لبهيجة إدريس ، أو " يابنت المدينة " و " يا المسرارة " للمعطي بلقاسم ، أو " في قلبي جرح قديم " لعبد الهادي بلخياط ، أو " ياك أجرحي جريت وجاريت " لنعيمة سميح ، أو "خفة الرجل " [ آش داني ولاش مشيت ] لأحمد إسماعيل .
 
أو للأغاني المشرقية التي حفظناها وكـأنها نصوص مقررة في الأدب العربي بيننا ، وكأنها موجهة لكل شابة وشاب؛ منها : " ساكن قصادي وبحبو " لنجاة الصغيرة [ كلمات حسن السيد وتلحين محمد عبد الوهاب ] ، أو " عايز جوباتك " لنجاح سلام [ كلمات حسن السيد وألحان رياض السنباطي ] ، أو " ماما زمنها جاية " تلحين وغناء محمد فوزي [ كلمات فتحي قورة ] .
 
هي الأغاني التي كنا نسمعها جميعا من المذياع [ الإذاعة الوطنية وإذاعة طنجة ] . أو حين تستمع للطرب الأندلسي / الآلة الأندلسية ، أو قصائد الملحون ، أو العيوط المرساوية القحة ؛ فنعيش حيوات ثانية مع الأداء والطرب الجميل بابتهاج وفرح ؛ فترتاح النفوس وتهدأ . أما الجلوس أمام التلفزة المغربية ليلة السبت للسهرة الفنية الكبرى فهي ليلة احتفال الأسرة والجيران ؛ مثلها سهرة الست أم كلثوم ليلة الخميس في مصر . ما أظن أن الزمن الحالي يعيد أمثالها.
 
وحين تمتلك " الفونو غراف " / " الجرامافون " أو الحاكي [ اخترعه توماس أديسون عام 1877 ] وتستمع إلى أسطونات 45 لفة ، أو 33 لفة ؛ تمتلك الطرب وأهله ؛ وكأنك صاحب الأغاني وممتلكها الوحيد ؛ بل إنك المالك الفرد لهذه الأغنية أو تلك . هي ساعات لايمكن أن تمحي ، أو أن يتوقف الزمن بعدها . كنت أجلس وأنا صغير في العاشرة من العمر مع أحد أخوالي الذي فتح عيني على الفن الرفيع والأداء الجميل للاستماع إلى محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ، وبعدهما أسمهان وعبد الحليم حافظ وفيروز وفريد الأطرش ؛ نحس أن هؤلاء المطربات والمطربين يعيشون معنا في البيوت والمنازل والدور ؛ هي الحياة الفردية التي عشناها في الزمن الجميل .
 
طربنا للأغاني التالية [ معذرة على الاستطراد الجميل لأسرد معكم مجموعة من أغاني المشرق ] : الوطن الأكبر / إمتى الزمان / إيه انكتب لي / جفنه علم الغزل / سهرت منه الليالي / علموه كيف يجفو / في البحر لم فتكم / القلب ما انتظر / الهوى والشباب / يا دنيا يا غرامي / يا وردة الصافي / بلاش تبوسني في عيني / أنا اللي طول عمري / مضناك جفاه مرقده / يا مسافر وحدك ؛ وهي للموسقار محمد عبد الوهاب .
 
أو تستمع لــ : إنت عمري / سيرة الحب / دارت الأيام / أراك عصي الدمع / ثورة الشك / سلوا قلبي / رباعيات الخيام / الأطلال / ولد الهدى ... للست أم كلثوم .
 
أوتستمع لـ : صافيني مرة [ أول أغنية من ألحان محمد الموجي سنة 1953 في حديقة الأندلس ؛ ولها مع الجمهور قصة ] / أهواك / قارئة الفنجان / زي الهوا / سواح / توبة / أنا لك على طول / على حسب وداد / جانا الهوى لعبد الحليم حافظ ( عبد الحليم شبانة ) .
 
أو أغاني فيروز ( نهاد رزق وديع حداد ) [ قصتها مع أستاذها حليم الرومي والد ماجدة الرومي ] ؛ ولا يمكن أن أسرد عليكم إلا جزءا من أغانيها ، بل أذكرها فقط لا غير للتذكر : مرمر زماني / طلعت يا محلا نورها / زروني كل سنة مرة / بكتب اسمك / نحن والقمر جيران / حبيتك بالصيف ؛ ناهيك عن مسرحياتها الغنائية التي حرصنا على امتلاك شرائط لها نتبادلها بيننا بفخر .
أحس الآن أن الحياة الطربية اختفت ، إن لم نقل " انقرضت " . لقد كنا في جيلنا نستمع جميعا الأغنية الوحيدة ، ونحفظها جميعا ، ونرددها جميعا ؛ ونتباهى بكلماتها وألحانها ومغنيها ومغنياتها . أما الآن فلكل فرد مذياعه الخاص وموسيقاه و" طربه " الخاص به . فصارت آلات الاستماع الفردية طربيات فــردية ، وكلمات فرديــة ، وفهم دلالات فرديـــة ؛ فـتَشـابه والتبس علينا الأمر [ كي لا أقــول كما قــال بنو إسرائيل في حوارهم مــع سيدنا موسى عليه السلام : " إن البقر تشابَــه علينا وإنــا إن شاء الله لمهتدون " [ الآية 70 من سورة البقرة ] .
 
ولا أجزم أو أعمم كي لا أتهم بالمارق ؛ فهناك انفرادات وفلتات وسط الزحام ، وإبداعات رائعة يحس بها الجميع من أهل الفن والطرب ؛ ويهتزون لأنغامها بهزات صوفية ، تسمو بالروح والنفس عن السقطات التي تجثو على عقول بعض أهل هذا الزمن .
 
والحاصل وما فيه ؛ إن هذه العبارات وقفات وجب التذكير بها كي لاتطمس معالم الطرب الجميل في حياتنا وحياة أبنائنا وأحفادنا ؛ هي رنة جرس لإيقاظ من له أذن فن رفيع في زمننا الجميل الآن وما بعده .