المصطفى المريزق: قادمون وقادرون.. الحركة التي خافت منها السياسة

المصطفى المريزق: قادمون وقادرون.. الحركة التي خافت منها السياسة المصطفى المريزق
منذ عودتي إلى المغرب سنة 2008-2009، بعد سنوات من التكوين والمنفى الاختياري في فرنسا، بدأت تتبلور في ذهني فكرة مشروع اجتماعي وثقافي يتجاوز الإطارات التقليدية للفعل السياسي والمدني. كان الهاجس الأساسي هو بناء فضاءات بديلة للفكر والحوار والمواطنة، تُمكِّن المواطن من استعادة صوته وفاعليته في الشأن العام. ومن هذا المخاض ولدت تجربة "قادمون وقادرون" التي سرعان ما تحولت إلى مشروع أوسع تحت اسم "مغرب المستقبل"، لتجسد دينامية مدنية فريدة، ممتدة ومتعددة الأبعاد، تشكل اليوم ما يمكن تسميته بـ "الطريق الرابع" في الفعل الاجتماعي والسياسي المغربي.
 
1. البدايات: من الهجرة إلى الفضاء العمومي والمدني
لم تكن الهجرة بالنسبة لي مجرد تجربة جغرافية، دراسية، مهنية ونضالية، بل كانت مختبرًا سوسيولوجيًا لفهم التحولات التي يعيشها المغربي المهاجر في علاقته بالهوية والانتماء والمواطنة. وعند العودة، كان من الطبيعي أن أستثمر هذا الرصيد في مشروع جماعي يعيد وصل ما انقطع بين الجامعة والمجتمع، بين المثقف والمواطن. من هنا جاءت فكرة المؤتمر الدولي للهجرة الذي تحتضنه كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس منذ سنة 2011، تخليدًا لليوم العالمي للمهاجر. اثنا عشر مؤتمرًا متتاليًا جعلت من مكناس فضاءً عالميًا للنقاش حول قضايا الهجرة والاندماج والهوية، وأسست لتقليد علمي سنوي مستقل عن الأجندات الرسمية، يؤكد على أن التفكير في الهجرة هو في العمق تفكير في المجتمع نفسه. 
 
2. المنتدى الوطني للمدينة: من تفكير عمراني إلى تفكير مجتمعي
 بموازاة ذلك، نشأت دينامية المنتدى الوطني للمدينة، التي نظمت أربعة مؤتمرات دولية وجابت أكثر من عشر مدن عبر قوافل المدينة. لم يكن الهدف تقنيًا أو عمرانيا فقط، بل كان اجتماعيًا بالأساس: إعادة التفكير في معنى العيش المشترك، وفي علاقة المواطن بالفضاء العام، وفي العدالة المجالية باعتبارها شرطًا للمواطنة الكاملة. هذه الدينامية حولت النقاش حول "المدينة" إلى سؤال حول الحق في المدينة، أي الحق في الفضاء، والكرامة، والذاكرة.
 
3. المقهى الثقافي مكناس: حين تصبح المدينة مختبرًا للثقافة
سنة 2016 كانت لحظة مفصلية. فقد وُلدت تجربة المقهى الثقافي بمكناس كمنصة حية للحوار، والاختلاف، والبحث عن الجمال والمعنى. أكثر من 15 دورة استضافت كتّابًا، ومفكرين، وروائيين، ودبلوماسيين، وشعراء، وأساتذة باحثين من مختلف الحقول. هذه التجربة البسيطة في شكلها، العميقة في أثرها، أعادت للمجتمع المحلي نَفَسَه الثقافي، وجعلت من اللقاء الثقافي حدثًا مدنيًا بامتياز، يربط المثقف بالمواطنة اليومية. 
 
4. الجامعة الشعبية المغربية: المعرفة كحق إنساني
 في امتداد هذه الديناميات، تأسست الجامعة الشعبية التي بدأت باسم "الجامعة الشعبية مكناس" قبل أن تتحول إلى الجامعة الشعبية المغربية، حاملة شعارها المؤسس: الحق في المعرفة حق من حقوق الإنسان. تابعها أكثر من عشرين ألف رائد ورائدة من مختلف جهات المغرب،  أطرها أزيد من أربعين أستاذ متطوعا، واستضافت عشرات الشخصيات العلمية- الأكاديمية،  السياسية، الحقوقية، النقابية، الثقافية، .. لتجعل من الفضاء العمومي ساحة للتربية المدنية والتفكير النقدي. لم تكن الجامعة الشعبية مؤسسةً بقدر ما كانت  ولازالت حركة فكرية تُناضل من أجل دمقرطة المعرفة، وتربط بين التعليم والمواطنة، بين الوعي والكرامة. 
 
5. الاستقلالية والالتزام بمجتمع  الحاشية السفلي 
منذ نشأتها، اختارت هذه التجارب أن تبقى مستقلة عن الأحزاب السياسية، وأن تشتغل مع عموم المواطنات والمواطنين، وخاصة مع ما أسميته الحاشية السفلى: مغاربة الجبل، والواحات، والسهوب، والسهول، وضواحي المدن المتوسطة والكبرى، رافعة شعارها المركزي: الحق في التعليم، الحق في الصحة، الحق في الشغل، الحق في السكن.  اللائق. وخلال عشر سنوات، تنقلت هذه الديناميات في أكثر من 56 منطقة، موثقة بالصور، والبيانات، والبلاغات، والمرافعات، لتُشكّل خريطة اجتماعية حية للمغرب العميق.
 
6. الإكراهات وسوسيولوجيا المقاومة 
طوال هذا المسار، لم يكن الطريق سهلاً. فقد واجه المشروع تجاهلاً، وتضييقًا، وتنمرًا، بل واتهامات مجانية بالشعبوية (وسنعود للرد على من اتهمنا بالشعبوية وحكم على تجربتنا بالفشل). غير أن ما يُسمّى "شعبوية" في قاموسنا المتواضع، هو في الحقيقة صوت مجتمع  الحاشية السفلي حين يجد لغته، ووسائل تعبيره، ومجالات فعله. 

لقد كانت هذه الحركات تمارس ما يمكن تسميته بـ المقاومة السوسيولوجية: مقاومة التهميش بالمعرفة، ومقاومة الإقصاء والاستبعاد الاجتماعي بالفعل الجماعي، ومناهضة التفاوتات وبناء العدالة الاجتماعية بنشر الوعي وتمكين الفاعلين المحليين، ومقاومة النسيان بالذاكرة.
 
7. الطريق الرابع: التراكم والتحول 
في سنة 2020، بلغ هذا المسار نقطة تحول نوعي مع ميلاد فكرة "الطريق الرابع"، التي لم تأتِ من فراغ، بل من تراكم أكثر من عقد من التجارب الميدانية والمعرفية. الطريق الرابع ليس حزبًا ولا حركة سياسية بالمعنى التقليدي، بل هو أفق مدني وفكري يسعى إلى إعادة تعريف المواطنة باعتبارها مشاركة فعلية ومسؤولة. ومن خلال لائحة المواطنة التي طرحها المشروع، حاول أن يعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، على أساس الحقوق والواجبات، لا الولاءات والانتماءات الضيقة.
 
8. في مواجهة النسيان والقرصنة الرمزية
 اليوم، ونحن نقترب من الاحتفال بمرور عشر سنوات على هذه التجربة، نكتب لا بدافع النوستالجيا، بل دفاعًا عن الذاكرة الجماعية. لقد حاول البعض قرصنة الاسم، وتوظيفه انتخابيًا، كما حاول آخرون تشويه التجربة أو اختزالها في سرديات جاهزة. لكن التاريخ الاجتماعي لا يُمحى، لأنه مكتوب في الفعل، في الصور، في الوجوه، وفي ذاكرة المدن والقرى التي احتضنت هذه الديناميات. إن "الطريق الرابع" هو في جوهره دعوة إلى الاعتراف بهذا التراث الحي، وبقدرة المجتمع المدني المغربي على إنتاج ذاته بعيدًا عن الوصاية. 
 
9. اللائحة المواطنة": انتصار الفكرة بعد عقد من الرفض
 في سياق هذه الدينامية التحررية، برزت مبادرة "اللائحة الوطنية للمواطنة" التي اقترحها الطريق الرابع سنة 2020، كواحدة من أكثر الخطوات جرأة في المشهد السياسي المغربي الحديث.  لقد دافعت هذه اللائحة بوضوح عن حق النساء والشباب في الترشح من خارج الأحزاب السياسية، باعتبار المواطنة في حد ذاتها أساسًا للشرعية السياسية، لا مجرد انتماء حزبي أو ولاء تنظيمي. غير أن هذه المبادرة، على الرغم من بعدها الديمقراطي والمجتمعي الواضح، قوبلت بالرفض من طرف كل الأحزاب والسلطة على حد سواء، لأنها كسرت احتكار النخب التقليدية للتمثيل، وفتحت الباب أمام فاعلين مدنيين مستقلين يملكون الشرعية الاجتماعية لا الحزبية.  ومع مرور السنوات، ظلت هذه الفكرة حيّة، حتى جاء بلاغ الديوان الملكي بمناسبة انعقاد المجلس الوزاري الأخير، الذي دعا إلى توسيع قاعدة المشاركة السياسية، وتمكين الشباب والنساء والكفاءات من الترشح والانخراط في الشأن العام، ولو من خارج الإطارات الحزبية التقليدية. إنه تحوّل سياسي عميق يؤكد أن التاريخ أنصفنا، وأن ما رفض بالأمس باسم "الاستثناء" أصبح اليوم اتجاهًا مؤسساتيًا رسميًا. إنه انتصار كبير لمشروع الطريق الرابع، وانتصار لفكرة المواطنة كأفق مفتوح للمشاركة، وسيسجّل التاريخ أن قادمون وقادرون – مغرب المستقبل كانت السباقة التي طرحت هذا المطلب بجرأة وبُعد نظر، حين كان الجميع يخاف مجرد التفكير فيه.
 
10. كلمة شكر ووفاء
لا يسعني، قبل الختام،  إلا أن أوجه كلمة شكر ووفاء لكل من عاش هذه الديناميات بكل ما حملته من أمل وصبر ومغامرة جماعية في سبيل مغرب المستقبل  أكثر عدلًا وكرامة.
شكرًا لكل من آمن بالفكرة منذ بداياتها، وساهم في بنائها بالحوار والعمل والمبادرة، ولكل من تابعها واحتضنها ودافع عنها حين كانت في عز عزلتها.

تحية تقدير خاصة لمن لا يزال يؤمن بها اليوم، يحترم مسارها، ويقدر تضحياتها. فهؤلاء جميعًا هم روافد هذا المسار، وشهودُ مرحلةٍ سيسجلها التاريخ ضمن تجارب المجتمع المدني المغربي التي سبقت زمنها ودفعت ثمن استقلالها..وليتذكر التاريخ ذلك ونحن أحياء، لا بعد أن نصبح أسماءً تُذكر في كلمات التأبين والمراثي...
 
خاتمة
 تجربة قادمون وقادرون – مغرب المستقبل ليست مجرد حركة اجتماعية عابرة، بل هي نموذج سوسيولوجي للفاعلية المواطِنة في سياق التحولات الكبرى التي يعرفها المغرب. إنها تجربة تختزل ما يسميه بيير بورديو بـ"رأس المال الرمزي للمجتمع"، أي القدرة على تحويل الفعل الثقافي والمدني إلى قوة اجتماعية مستدامة.  ولعل ما يميزها هو إصرارها على الجمع بين المعرفة والميدان، بين الفكرة والممارسة، بين المحلي والوطني. بهذا المعنى، فإن "الطريق الرابع" ليس وجهة، بل مسار مقاومةٍ ناعمةٍ تُعيد للمجتمع صوته، وللمواطنة معناها الحقيقي.
 
المصطفى المريزق 
مؤسس الطريق الرابع
(يتبع)