نسمع كثيراً بأن الديمقراطية اختيار سياسي في الحُكم يقوم على أسس أهمها: وضع دستور متوافق عليه؛ إقرار تعددية سياسية فعلية وليست عددية فقط، تنظيم انتخابات تنبثق عنها مؤسسات تمثيلية حقَّة؛ وتوفير شروط تداول سِلمي على السلطة. غير أن هذه المقتضيات الضرورية للتأسيس لمرتكزات الديمقراطية تندرج في إطار الاختيارات الليبرالية الدستورية. ولتعزيز هذه الأسس والانتقال إلى ديمقراطية مُوَّطدة يتعين إدماج كافة الحقوق الإنسانية، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، والبيئية؛ بل إن الديمقراطية، أولا وقبل كل شيء، في جوهرها ترجمة لنمط من التفكير ومنظومة قيم، وأخلاقيات للمناقشة والمنافسة والتبادل وخدمة الصالح العام.
وتشكل التعددية أساس النظام الديمقراطي، كما هو معلوم؛ وتكشف أساليب وأنماط تدبيرها عن درجة الوعي الفكري، السياسي والمؤسسي الذي تحمِله النخب الثقافية والسياسية والإعلامية المسؤولة عن تسيير الشأن العام، أو التي تطمح إلى تحمل عبئ تسييره.
لكن هل نملك ما يلزم من المسافة لفهم دلالات ما ينتج من خطابات حول التعددية، وما يترجم على الأرض من سياسات وممارسات، ورصد مؤشرات جديرة بمطابقة الشعارات والبشائر لمقتضيات إعادة بناء المجال السياسي على أسس من الفكر الديمقراطي العصري؟
أطرح هذا السؤال بهذه الصيغة الحاملة لبعض الشك لأن الخروج من التسلطية إلى الديمقراطية يستلزم التحرر من دائرة الدعاية في الإعلام ومنطقها، وفي الاتصال السمعي البصري العمومي على وجه التخصيص، ومن هيمنة الرواية الواحدة للأحداث، للمجتمع، والسياسة والثقافة، والانتقال إلى تبني المعالجة التعددية للأخبار والوقائع.
لذلك يدافع كثير من الناس، فلسفيا وسياسياً، عن مبدأ التعددية بوصفه شرطًا مؤسّساً للديمقراطية. ولكن هل يكفي الدفاع عن هذا المبدأ في المطلق وبالخصوص في المجال العام؟
وكيف يمكن تحديد تيارات تمتلك ما يلزم من الصفات لنعتها بأنها تمثل اختلافات؟ إلى أي حد يمكن الذهاب في الاعتراف بالاختلافات والقبول بتعددية بدون معالم وبدون حدود؟ أم أن الأمر يستلزم احترام درجة ما من التمثيلية؟
تكتسب هذه الأسئلة مشروعيتها حين نعلم بأن هناك مشاكل عديدة تواجه عملية التصريف المؤسسي والسياسي والإعلامي لمبدأ التعددية. ولا يكفي القول إزاء هذه الصعوبات بأن المهم هو مراعاة مبدأي الإنصاف أو المساواة. والإمكانيات المتجددة أو التي يتعين العمل على خلقها لبناء “ثقافة عمومية” تستند إلى قيم أو معايير لصياغة "مجال عمومي" قادر على إغناء وحماية هذه القيم من خلال المناقشة الجماعية، وأخد الكلمة، ومواجهة الحُجَّة بالحجة.
بل إن الأمر يزداد تعقُّدا حين تواجه المشاركة في المناقشة العمومية تحديا آخرا ومثيرا في الآن نفسه، والمتمثل في الثورة الرقمية الكاسحة، بحكم أنها خلخلت، وما تزال تخلخل يوما بعد يوم مفهوم "المجال العمومي" بالمعنى الذي اعتاد الناس على ربطه بالتعددية والديمقراطية. وهو ما يُحير، الآن، رجال القانون والسياسة. إذ حتى وإن وفَّرنا الشروط القانونية، المؤسسية، والسياسية والإعلامية لتدبير التعددية في المجال العام، فقد حصل تحويل واضح لطرق أخذ الكلمة والتعبير عن تيارات الفكر والرأي.
ومهما كانت شروط استعمال وسائل الاتصال الكلاسيكية أو الرقمية أو هما معاً، فإن أهم عامل في "الديمقراطية التواصلية" يتمثل في: الإعلام، والاستشارة والمشاركة والتعددية في إطار علاقات تتفاوت طبيعتها وقوتها حسب السياقات السياسية الخاصة، بين المواطنين وأصحاب القرار.
لهذا ارتكز المشرع المغربي في تفكيره في التعددية على مسألة التمثيلية لضمان نوع من التماسك الاجتماعي، لكنه أضاف مبدأ الأهمية، أي أهمية منظمة حزبية أو تيار فكري داخل المجتمع، كما أنه ربط تصور وتطبيق التعددية في الاتصال السمعي البصري بمفهوم المرفق العمومي. وأكدت الممارسة أن المعالجة المعيارية للتعددية وحدها لا تكفي، وإن كانت ضرورية، لأن القضية أعقد مما يمكن أن نتصور، لأنها تندرج في إطار مُركَّب تتداخل فيه اعتبارات قانونية، سياسية وسوسيوثقافية، وإعلامية. وتستلزم وعيا مطابقا لهذا التعقد، وانخراطا جماعيًا في عملية فهم مختلف رهانات وأبعاد الممارسة السمعية البصرية والرقمية. فضلا عن أن هذا الوعي التشريعي تساوق مع لحظة انفتاح سياسية في بداية الألفية ما انفك يضيق مع توالي السنوات الأخيرة.
والحال أن المشاركة في المناقشة العمومية، في إطار التعددية والديمقراطية، تتمثل في السؤال والمساءلة ومواجهة الحُجة بالحجة لتفادي المواقف الحدِّية، والمانوية بل والمتطرفة. بل إن التعددية ممارسة تتنافى مع التطرف والإقصاء بقدر ما تسْتَبعده.
ولعل التأكيد على هذه البديهية يأتي في سياق كل شيء فيه "يبدو مُعَلقا" أو مؤقتا، عندنا في المغرب، حيث تتخذ فيه قرارات تأرجح بين الانفتاح والتراجع في مناخ من التردد الدائم، وأحيانا في ظروف تبرز فيها أشكال متنوعة من المساومة والضغط. هذا في الوقت الذي يستوجب إعادة بناء وسائط تواصل تؤسس للمعالجة التعددية للخبر، وتتجرأ على التحقيق في كيفيات اتخاذ القرار وتقدم مناقشات تعكس، حقا، تعددية التيارات الفاعلة، وليس مجرد تعددية مُصطنعة، لا يستجيب عدد كبير ممن ينطق بها إلى مقتضيات التعبير عن تيار أو تمثيل اختلاف في الرأي.
وإذا كانت التعددية مسألة ثقافية وتعبيرا عن قناعات ديمقراطية، فهي تواجه مقاومات وصعوبات كبرى للخروج من دائرة الرواية الواحدة ومنطق الدعاية، و"الإجماع الرخو" وغياب المعالجة التعددية للخبر وللمستجدات من طرف هذه الوسائل ذاتها.
يطرح هذا المعطى سؤالا كبيرا يمكن صياغته كالتالي: كيف يمكن تصور انخراط وسائل الاتصال مكتوبة، سمعية بصرية، وإلكترونية، في تطوير المناقشة العمومية، ونشر ثقافة المُواطنة، وتشجيع الناس على المساهمة في صناعة القرار السياسي والمجتمعي؟
تدبير التعددية في غياب استجلاء هذه الأسئلة يبدو إشكاليا، خصوصاً حين نعلم بأن فترات الانتقال المُتموِّج تتميز بتأجيج ما ينعت بـ “البؤر الصراعية” في سياق التحرر من عقود من الإذعان والتحكم. فكل مجتمع يضم في دواخله هذه البؤر كما هو الشأن بالنسبة لقراءة التاريخ، وموقع الدين، والتنوع اللغوي، ووضعية المرأة. ولوسائل الإعلام السمعية البصرية العمومية بالأخص أدوار حاسمة في معالجة هذه البؤر الصراعية وتقديمها في اتجاه تعزيز السلم المدني، والاندماج الوطني لتفادي المنزلقات الكفيلة بتعريض مجهودات التحول الديمقراطي للتبديد، لا سيما في سياق ثقافي وسياسي وإعلامي ما يزال ينتج ما يسميه عبد الله العروي بـ “عوائق التحديث”، ويعاني نقصًا في الثقافة الديمقراطية العصرية.
وإذا كان الوعي بهذه الشروط متوفرا في كثير من المرجعيات المعيارية في المغرب، بدءاً بالدستور، وبالظهير المؤسس للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، وقانون الاتصال، فإن العِبرة في العمل تتوقف على ترجمة ما هو معياري ومبدئي إلى إعادة بناء مجال عمومي حي ويقظ يعرض منتوجا إعلاميا وتواصليا له قدرة على خلق الصدى والتفاعل مع جمهور يتمتع بعروض مُنافِسة، خصوصا مع تكاثر البرامج الحوارية في مواقع إلكترونية، وبودكاستات، والحرص على إطلاق دينامية جديدة تترجم عمليا ما هو معياري. فالأمر يستلزم مقاومة الاستسلام للسلبية، والإذعان لإكراهات الواقع تحت ذريعة أن الأمر صعب أو مستحيل، والاطمئنان إلى إبعاد المرفق العمومي من مجال التجاذبات الحزبية الضيقة، أو المنافسة الهوياتية، كيفما كانت ذرائعها. والحال أنه ما تزال وسائل الاتصال السمعي البصري تشكل رهانا كبيرا في السياسة عندنا؛ سيما وأن المجتمعات الديمقراطية توافقت على تحييد المرفق العمومي من دائرة الصراع الحزبي والدعاية المُضْجِرة، وترقيته في إطار تعاقدي خاضع لمقتضيات الضبط والإنصاف، ليشكل فضاء للتعبير الديمقراطي التعددي، ولترجمة تيارات الفكر والرأي الراجحة في المجال العمومي.
فعملية أخذ الكلمة تستدعي، كما تبيَّن معنا، فهم سياقات القول التي تتميز، في أيامنا، بمنسوب متصاعد للصخب وللزيف، وبتشتُّت للوسائط غير مسبوق، مما ينجم عنه قلق "تواصلي" لا يسعف في إيجاد خطاب يناسب تعدد الفضاءات الواقعية والافتراضية، لا سيما وأن الأخيرة أنتجت ظواهر، وأصوات، وصور، وجماعات غير مستعدة لمواجهة الحجة بالحجة، ولا تملك ما يلزم من الكفاية العقلانية. من هنا الحاجة الحيوية إلى معالجات تعددية للوقائع والأخبار، واستعادة الإعلام العمومي لمهامه المؤسسية في المناقشات العمومية ذات المقاصد المجتمعية والوطنية الكبرى.