ما يفعله جوليانو دا إمبولي في روايته هذه، هو تشريح اللحظة السياسية الحالية، لكن من زاوية مأساوية شخصية: زاوية الساحر الذي أفاق ليجد نفسه سجين تعويذته. الرواية لا تروي تسلق طاغية، بل تحكي مأساة العقل الحديث الذي أصبح شريكاً في تدمير نفسه. في زمنٍ لم تعد فيه الحقيقة معيارًا، بل سلعةً تُنتَج حسب الطلب، لم يعد الوحش السياسي كائنًا يغتصب السلطة من الخارج، بل كائنًا تصنعه الجماهير، وتُقدّسه، وتُطالب ببقائه. هذا هو جوهر "ساعة المفترس" لجوليانو دا إمبولي.
يقدّم جوليانو دا إمبولي تحليلا دقيقًا لآليتين جوهريتين في السياسة المعاصرة: صناعة الواقع وصناعة المفترس. الأولى تتعلّق بكيفية تفكيك الحقيقة الموضوعية وإعادة تركيبها كسردٍ عاطفي يُرضي الرغبات الجماهيرية؛ والثانية تتعلّق بكيفية تحويل القائد السياسي إلى كائنٍ خارق — ليس زعيمًا فحسب، بل "مخلّصًا"، "أبًا"، أو حتى "وحشًا مقدّسًا" لا يمكن استبداله. هاتان الآليتان معًا تُشكّلان جوهر الشعبوية في عصر ما بعد الحقيقة، وتكشفان أن المشكلة ليست في "الرؤساء"، بل في البنية الثقافية التي تصنعهم وتُقدّسهم.
من خلال حكاية فيكتور أورسيني، مستشار التواصل العبقري الذي يهرب إلى دير سويسري، لا نسأل "كيف يتربع الطغاة؟" بل نسأل: ما الدور الذي تلعبه النخبة المثقفة، بخبراتها وذكائها، في تمهيد الطريق للبربرية؟ هذه الإشكالية هي قلب المأساة السياسية المعاصرة: كيف أصبحت أدواتنا الفكرية، من فلسفة وتحليل واستراتيجية، وقوداً لنار تدمّرنا؟
في قلب المشروع السياسي الذي يصفه دا إمبولي، لا توجد "حقيقة" يدافع عنها، بل "سردٌ مفيد" يُصمّم لخدمة الهيمنة. فشخصية فاسيليي مارتينوف، المستشار الخيالي للرئيس، لا تهتم بما "حدث فعليًا"، بل بما "يجب أن يُصدّق أنه حدث". مهمته ليست إخفاء الحقيقة، بل جعلها غير ذات صلة. والجماهير، وفق رؤيته، لا تطلب دقةً أو منطقًا، بل شعورًا بالانتماء، والانتقام الرمزي، واليقين في زمنٍ تسوده الفوضى.
آليات صناعة "الواقع" كسلعة سياسية
الرواية تقدم لنا مختبراً عملياً لآليات لا نعرفها جيداً في عالمنا العربي:
1 اللاعقلانية كاستراتيجية عقلانية: أورسيني لا يبيع الأكاذيب، بل يبيع "الفوضى المنظمة". عندما يجعل من المستحيل تمييز الحقيقة من الكذب، يتحول السياسي من قائد إلى "مشاعر جماهيرية". هذه الاستراتيجية نراها في الخطاب الإعلامي الذي يحول كل حدث إلى "رواية" تتنافس مع أخرى، لا إلى حقيقة قابلة للتحقق.
2 السياسة كمسرحية عاطفية: الزعيم الشعبوي في الرواية، غوردييف، لا يحكم بالمنطق، بل بلغة الانتماء والكراهية. أورسيني هو مهندس هذه المسرحية، الذي يحول الغرائز الجمعية إلى برنامج سياسي. ألا يذكرنا هذا بخطابات "الزعيم الملهم" الذي يتحدث إلى "قلوب" الجماهير متجاوزاً "عقول" النخبة المكروهة؟
3 .استغلال الماضي كسلاح للمستقبل: لا يخترع أورسيني وغوردييف المظالم، بل يستخرجونها من تاريخ الأمة – الإهانات القديمة، الهزائم التاريخية، الصراعات الطائفية – ويقدمونها على أنها الجرح النازف الذي لا يلتئم إلا بيد "المفترس". إنها عملية تحويل التاريخ من درس إلى سلاح.
هنا، يتقاطع دا إمبولي مع ميشيل فوكو: فالسلطة لا تُمارس فقط عبر القمع، بل عبر إنتاج "أنماطٍ من الحقيقة" تُشكّل وعي الأفراد. وما يفعله رجل السلطة هو تطبيق عملي لهذه الفكرة: فهو لا يكذب على الجماهير، بل يُنتج لهم واقعًا جديدًا يصبح، مع التكرار، أكثر "واقعية" من الواقع نفسه. في هذا السياق، لا يوجد كذبٌ صريح، بل نظام خطابي متكامل يُعيد تعريف ما هو "معقول"، "طبيعي"، و"وطني".
صناعة المفترس: من السياسي إلى الكائن المقدس
هنا، يتحول أورسيني من تقني إلى مشعوذ. هو لا يبيع وعودًا كاذبة، بل يبيع هويات. هذه الآلية نعرفها جيدًا في خطاباتنا العربية: الخطاب الطائفي لا يقدم حلولاً اقتصادية، بل يقدم لأتباعه "صورة" عن أنفسهم كضحايا أبطال. الخطاب القومي المتشدد لا يناقش استراتيجيات التنمية، بل يعيد إنتاج "صورة" مجيدة عن ماضٍ يغيب عن الحاضر. أورسيني هو مهندس هذه المرايا المخترعة.
لأن صناعة الواقع وحدها لا تكفي. فلتحقيق الهيمنة المستدامة، لا بدّ من صناعة الوحش — أي تحويل الزعيم إلى شخصية لا يمكن تخيّل البديل عنها. في "ساعة المفترس"، لا يُقدّم الرئيس كسياسي يُخطئ ويُصيب، بل كـ"قوة طبيعية"، كـ"قدر"، كـ"وحش ضروري" في زمن الفوضى.
وهنا، يلتقي دا إمبولي مع خوسيه أورتيغا إي غاسيت، الذي حذّر من صعود "الإنسان الكمي" — ذلك الفرد العادي الذي يرفض الاعتراف بأي تفوّق فكري أو أخلاقي، ويطالب بأن يُعامل كخبير في كلّ شيء لمجرد وجوده. هذا الإنسان لا يطلب قائدًا أفضل، بل قائدًا يشبه غضبه. ومن هنا، يُصبح الوحش السياسي ليس استثناءً، بل تعبيرًا عن رغبة الجماهير في رفض النخبة، والحقيقة، والتعقيد.
آليات صناعة المفترس – من الفوضى إلى العبودية
الرواية لا تقدم نظرية، بل تقدم دليلاً عمليًا لتحطيم المجتمعات. أورسيني لا ينفذ أوامر، بل يخلق النظام من خلال الفوضى. إليكم بعض آلاته التي نعرفها جيدًا:
1. آلية "تسميم البئر": جعل كل المصادر محتملة الكذب. في الرواية، لا ينكر أورسيني الفضائح التي تتعرض لها شخصية "غوردييف"، بل يخلق فضائح مضادة لا حصر لها. النتيجة؟ "عندما تغدو كل الحقائق نسبية، تصبح الحقيقة الوحيدة هي صوت الأقوى". هذه الاستراتيجية نراها بوضوح في فضاءاتنا الإعلامية والاجتماعية العربية، حيث تتحول كل جريمة أو فشل إلى "رواية" وسط عشر روايات مضادة، فيفقد الجمهور قدرته على التمييز، وينسحب إلى الصمت أو الانحياز الأعمى.
2. آلية "الجرح الهوياتي": الزعيم الشعبوي، "غوردييف"، لا يخترع المظالم من العدم. مهمة أورسيني هي البحث في متاحف الذاكرة الجماعية للشعب – الهزائم التاريخية، الإهانات الدولية، الصراعات الداخلية – ثم تقديم هذا الجرح على أنه نازف إلى اليوم، والوحيد القادر على كيَه هو "المفترس". "الشعب الذي لا يشعر بالمهانة، لا يمكن قيادته". هذا ما نراه في خطابات تذكير الجماهير باستمرار بـ"المؤامرات الخارجية" و"أعداء الأمة"، ليس لتحفيزهم على المنافسة، بل لشلّ قدرتهم على النقد الداخلي وربطهم عاطفيًا بالزعيم "الحامي".
3. آلية "مسرحة السياسة": يتحول الزعيم في الرواية من حاكم إلى "نجم". خطاباته ليست مجموعة قرارات، بل عروض أدائية. غوردييف لا يتحدث إلى العقل، بل إلى الغرائز. أورسيني هو مخرج هذه المسرحية. ألا يذكرنا هذا بظاهرة "الزعيم الملهم" في عالمنا العربي، الذي يظهر في اللحظات الدرامية، يتحدث بلغة القلب (لا العقل)، ويحيط نفسه بهالة من الرمزية والطقوس التي تجعله فوق المحاسبة وفوق النقد؟
في الولايات المتحدة، قدّم دونالد ترامب نموذجًا غربيًا صارخًا لـ"الوحش المُصنَع". "الجدار مع المكسيك"، "الانتخابات المُزوّرة"، "الدولة العميقة" — كلّها لم تكن ادعاءات تحتاج إثباتًا، بل رموزًا عاطفية تُعيد تعريف الولاء الوطني. والجمهور لم يُصدّقها لأنها صحيحة، بل لأنها عبّرت عن غضبه، وشكّكت في النخبة، وأعادت له شعورًا بالكرامة المفقودة.
الوحش لا يغتصب السلطة؛ بل يُدعى. ويُدعى لأنه يملأ فراغًا: فراغ المعنى، فراغ الهوية، فراغ الأمل. وحين يُصبح الوحش "الحل"، يصبح السؤال ليس "كيف نقاومه؟"، بل "كيف نمنع ولادته من جديد؟".
وهذا السؤال ملحٌّ في السياقات العربية أيضًا. فليس بعيدًا أن نرى خطابًا يُقدّس "الرجل القوي" باعتباره الضامن الوحيد ضد الفوضى، أو أن نشهد سردياتٍ بديلة تُعيد كتابة التاريخ لخدمة مشروعٍ سلطوي. الفارق ليس في وجود "المفترس"، بل في وجود فضاءٍ عامٍّ قادر على مقاومة صناعته.
المقاومة لا تبدأ بإسقاط الوحش، بل باستعادة ثقة الناس بأنفسهم: بأنهم قادرون على فهم الواقع، والاختلاف فيه، وصناعته معًا، دون وصايةٍ من "ساحر" أو غيره. لأن الوحش لا يموت بالقوة، بل باللامبالاة — حين يُدرك الناس أنهم لا يحتاجون إليه، لأنهم استعادوا ثقتهم بأنفسهم وبقدرتهم على صنع واقعٍ مشترك لا يُدار من خلف الستار.