مدخل : توضيح السياق المرتبط بالموضوع
شدد جلالة الملك محمد السادس، في خطابه أمام البرلمان المغربي بتاريخ 10 أكتوبر 2025، على أن العدالة المجالية ليست شعارا مؤقتا وظرفيا، بل هي تدخل ضمن التوجهات الاستراتيجية ذات الأولوية، التي تقتضي عملا جادا وتعبئة تشاركية، من أجل تنفيذ برامج التنمية المجالية، خاصة في المناطق ذات الهشاشة والضعف البنيوي. كما دعا إلى تحسين شروط الحياة الكريمة للمواطنين، وتوجيه الجهود للرفع من فرص الشغل للشباب، والنهوض بالبنيات التحتية الضرورية.
وأكد العاهل المغربي بصفة مستمرة على ضرورة تفعيل الحوار المؤسساتي، والانفتاح على جميع المقترحات والإصلاحات والتجاوب الضمني معها، بما تقتضيه الضرورة والإمكانيات، وتحديدا في قطاعات التعليم، الصحة، الشغل، والسكن.
وارتباطا بالموضوع، وحتى نسهم في تنزيل هذه التوجيهات السامية، قمنا بمقاربة لواقع منطقة الهراويين، حيث رصدنا تناقضات واضحة وتغييبا لإرادة الإصلاح، دالا من جهة على اختلال في التصورات وارتباك الممارسات، ومن جهة أخرى على تجاوز صريح للتوجيهات الملكية، حيث فشلت الممارسة الترابية في تنزيل برامج التنمية المجالية بالمنطقة.
لقد تضافرت مظاهر التهميش الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمؤسساتي بمنطقة الهراويين، لتؤثر بشكل مركب على مختلف أبعاد الحياة المجتمعية، وتفضي إلى تعطيل الديناميات التنموية، مما يقتضي إثارة إشكال عميق حول فعالية السياسات العمومية ! وبلورة تساؤل حاسم بخصوص تحويل الرؤية الملكية إلى واقع ملموس !
وعليه، سنتناول في هذا الموضوع بيانا مختصرا لهذا الواقع، مع التنبيه على جملة من الاختلالات التي تسود التدبير من خلال المقاربة الآتية:
الحياة الكريمة والحق في الماء
صرح العاهل المغربي في كثير من المناسبات على ضرورة ضمان الحقوق الأساسية للمواطنين، وفي مقدمتها يأتي الحق في الماء، باعتباره موردا حيويا يقوم على حق المساواة من دون تفرقة ولا تمييز، وبما لا يجعله خاضعا لمنطق الولاءات الانتخابية. غير أننا سجلنا بمنطقة الهراويين، ومن خلال جملة من المعطيات الواقعية، والبيانات الإعلامية، وضعا كارثيا بامتياز ! حيث تؤكد الشواهد على أن سكان الهراويين لا يمنح لهم سوى سعة قدرها 150 لترا من الماء غير الصالح للشرب، مرة كل ثلاثة أيام، وأن منطق الولاءات الانتخابية يخضعهم للابتزاز، ويضطرهم إلى شرائه من وسطاء -يستغلون هذه الظروف- بأسعار مضاعفة، والتنقل لمسافات تصل إلى خمسة كيلومترات لجلب الماء الصالح للشرب.
إن هذا الوضع لا يمثل انتهاكا وإخلالا بحقوق المواطنين فحسب، بل يعد اعتداء صارخا على إنسانيتهم، وتجاوزا بينا للحق في الحياة الكريمة الذي ضمنه القانون المغربي لكل الناس، ناهيك على أنه يكرس لبنيات اجتماعية مأزومة وغير مهيكلة، تؤثر سلبا على حياة الأسر بالمنطقة، وتمس باستقرارهم وبحقهم في العيش الآمن، في تناقض صريح ومباشر مع التوجيهات الملكية.
البنية التحتية المهملة وتكريس الإقصاء المجالي
ولعل من أبرز مظاهر الإقصاء والتهميش في منطقة الهراويين تدهور البنيات التحتية، وغياب شبكات التطهير وتصريف المياه العادمة لعقود عديدة وإلى اليوم، حيث تطفو على سطح الأرض وسط ممرات الأحياء، مسببة محاضن آسنة، وبؤرا بيئية ملوثة تهدد الصحة العامة، مما يخل بمبدأ الإنصاف المجالي الذي يعطل أحد أبرز ركائز الخطابات الملكية الأخيرة.
ولم يقف هذا الوضع المأزوم عند هذا الحد، بل تعزز بغياب الإنارة العمومية، وبوفرة الطرقات العشوائية غير المعبدة، ناهيك عن انعدام المرافق الصحية الضرورية، مما يجلي بوضوح عمق الإهمال والتجاهل الكبيرين، وقسوة الإقصاء المنظم، الذي يعيد إنتاج الفقر في صورته المجالية، ويضعف من فرص الاندماج، ويفرز شرائح مجتمعية غاضبة واحتقان واسع بين جموع ساكنة المنطقة.
وإلى جانب افتقار الساكنة إلى البنيات البيئية النظيفة، حيث تنتشر مجامع القمامة بشكل غير منظم وسط الأزقة والشوارع، وتتركز أحيانا أمام بيوت الساكنة. كما تشكو الساكنة من انعدام الفضاءات الخضراء المخصصة للتسلية والترفيه، الشيء الذي يؤكد على غياب الاهتمام والإقصاء الممنهج، ويضعف من قدرات الشباب، ويستهدف الناشئة في العمق، ويحد من انخراطها في الحياة العامة.
إن هذه المظاهر تناقض بشكل واضح وجلي كل ما ورد في الخطابات الملكية، من دعوة إلى تحسين شروط العيش الكريم، وتوفير الخدمات الأساسية في كل المجالات الترابية، بما يضمن العدالة الاجتماعية والمجالية.
الشباب وحراك جيل z بين التوجيهات التنموية والتهميش
يعبر حراك "جيل زد 212" عن ثورة وعي شبابي متصاعد، انتقد الوضع السياسي الحالي، وطالب بإصلاح قطاعي الصحة والتعليم، وجعل قضية التشغيل على رأس الأولويات الوطنية، مشددا على ضرورة التصدي للممارسات التي تهدر الوقت والجهد والإمكانات العمومية.
غير أن مقاربة الوضع القائم بمنطقة الهراويين، يؤكد على اتساع متنامي للهوة بين حقيقة الخطاب والممارسة، حيث لا يزال شباب المنطقة يعاني من تغييب مقصود لأي من البرامج الموجهة أو المبادرات المسؤولة، سواء على المستوى الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي، بل وحتى على صعيد الحملات الترويجية لفرص التشغيل والتكوين والتأهيل المهني، ومبادرات دعم مشاريع الشباب.
إن غياب الفضاءات الثقافية والرياضية ونقص البنيات الثقافية، قد أسهم في تحويل شباب المنطقة إلى فئة مهمشة مقصية، تتجه نحو الانحراف واستهلاك المخدرات وترويجها، في تناقض فاضح مع التوجهات الاجتماعية المطلوبة التي تدعو إلى العناية بالثروة الشبابية، وتمليكها أدوات الفعل والمشاركة.
الجماعة بين هاجس المسؤولية وتكريس السكن غير اللائق
تُعرف منطقة الهراويين بالهشاشة والفقر وتدهور الأوضاع الإنسانية كما هو الحال في حي العمران، وأما الهراويين السفلية فيغلب عليها طابع السكن العشوائي، الذي يجسد انتهاكا لكرامة المواطن. فهي في عمومها عبارة عن مساكن قصديرية وأكواخ مهملة، كما هو الحال في دوار الشياضمة ودوار المديوني وغيرهما، مما يبرز سؤال تنزيل برامج إعادة الإيواء، ومستوى التراخي في تفعيل الحق في السكن اللائق !
وقد أكد جلالة الملك على أن التنمية لا تكتمل من دون توفير شروط جودة الحياة، بما في ذلك السكن الآمن والمناسب. غير أن الجهات المسؤولة بما فيها الجماعة الترابية لم تفصح عن أي مستجدات أو معطيات جديدة بخصوص المشاريع المرتبطة بهذا الموضوع، رغم اعتراف رئيس جماعتها الترابية بوجود فائض في الميزانية، في أحد البرامج الذي تم بثه على القناة الثانية M2 يوم 10 أكتوبر 2025، مما يجلي بشكل واضح عمق الاختلالات البنيوية على مستوى التخطيط الاستراتيجي، وغياب الرؤية التنموية المندمجة في التنزيل.
الحوكمة المحلية إلى أين: ترهل الواقع التدبيري وغياب الحوار
دعا الملك إلى تعزيز الشفافية وتفعيل المساءلة في قضايا التدبير المحلي، وتقوية دينامية النقاش العمومي بين الفاعلين السياسيين، وتنشيط آليات الحوار والتشاور. غير أن جماعة الهراويين لا زالت تعيش في سياق أزمة بنيوية تخص الأداء المؤسساتي، وتفككا في القيادة على مستوى الجماعة الترابية، وغيابا واضحا في الانسجام بين أعضاء المجلس الجماعي (سبق وأن عاينت ذلك بشكل مباشر خلال حضوري لدورات المجلس الجماعي)، وتهميشا منظما ومقصودا للمعارضة، وتغييبا ممنهجا للحوار المؤسساتي، واحتكارا للقرار من طرف الأغلبية غير المنسجمة.
كما لا يفوتني في هذا المقال، أن أعرج على مداخلة رئيس الجماعة التي تم بثها على القناة الثانية M2، يوم 10 أكتوبر 2025. فعوض أن يبسط الرئيس واقع منطقة الهراويين، تبنى خطابا اتهاميا وموقفا سلبيا تجاه الساكنة بدل الدفاع عن حقوقها، حيث أجرى توصيفا لهم كفئة خارجة عن القانون، تسرق المعدات والمواد الخام المخصصة لإصلاح البنيات التحتية. وإذ لا ننفي أن تكون هناك حالات استثنائية، تدخل في باب الحوادث العارضة، غير أن هذه الاتهامات لا ينبغي تعميمها، وهي لا تمنح الرئيس الحق في إصدار أحكام قيمة تجاه ساكنة المنطقة، مجازفا بحقوقهم الضرورية وسمعتهم الاجتماعية في أوساط ساكنة الدار البيضاء، مما يبرز انفصاله العميق عن واقع المنطقة، ويظهر حجم الهوة بين القيادة المنتخبة والقاعدة الاجتماعية، ويضعف من حوكمة التمثيلية، ويفرغ الديمقراطية التشاركية من مضمونها الواقعي.
بين الرؤية الرسمية والممارسة الواقعية
تُبرز المقارنة المنهجية بين الخطابات التنموية وواقع الهراويين فجوة بنيوية عميقة بين التصورات والبرامج الرسمية وبين الممارسة الترابية والتنزيل الواقعي للبرامج التنموية. فقد أكد الملك محمد السادس في خطابه الأخير على أن العدالة المجالية تمثل ركيزة أساسية، ذات الأولوية في تنزيل مشاريع النموذج التنموي الجديد. كما دعا إلى ضمان الحقوق وتحسين شروط جودة الحياة.
ولعل المفارقات السالفة التي تم رصدها والوقوف عليها، جديرة بأن تظهر ذلك البون الشاسع بين واقع الساكنة من جهة، وبين التوجيهات الملكية والممارسة الترابية من جهة أخرى. ولا شك أنها في نفس الوقت تعيد طرح سؤال مركزي حول مدى قدرة المؤسسات المحلية على ترجمة الرؤية الملكية إلى واقع ملموس، وتبرز الحاجة إلى النظر بشكل جذري في منطق التخطيط والممارسة، ومراجعتها بما يعيد الاعتبار للإنسان، ويثبت العدالة المجالية، ويرسخ لمبدأ التنمية كحق مشترك ومشروع، لا ينبغي أن يسثنى منه أحد.
خاتمة وتوصيات
لعل المقاربة التي اعتمدناها قد عملت على مقارنة مختصرة بين محتوى الخطاب الملكي والممارسة الترابية في منطقة الهراويين، ناهيك على أنها أبرزت عمق الفجوة بين البرامج المؤسساتية والتطبيق المحلي. لذلك، ظلت هذه المنطقة ومنذ عقود طويلة تتطلب تدخلات ومبادرات استعجالية، نلخصها في العناصر الآتية:
-الحرص على إرساء تمثيلية ملائمة وفاعلة تخدم مصالح الساكنة.
-العمل على استيعاب التصورات الحكومية وتحويلها إلى ممارسات تنسجم مع الاحتياجات الملحة للساكنة.
الارتقاء بمستوى الكائن الانتخابي وحصر شروط مقاربة التدبير وفق مؤشرات دقيقة، قابلة للقياس والتتبع والمساءلة.
-إعادة تنظيم وهيكلة التدخلات الترابية وفق مقاربة مندمجة، بما لا يسمح بالتضليل السياسي، ولا بتعزيز منطق الولاءات الانتخابية.
-تفعيل الديمقراطية التشاركية والانفتاح على الهيئات والمؤسسات الموازية.
-إصلاح منظومة الحكامة المحلية وتعزيز الشفافية والمساءلة.
-مراجعة التصنيف الإداري للمنطقة بما ينسجم مع واقعها العمراني والديمغرافي.
-اعتماد مؤشرات دقيقة لتتبع قضايا الإنصاف المجالي، وتقييم أثر السياسات العمومية في الأوساط الترابية.
-تفعيل آليات المحاسبة والمساءلة القانونية.
الدكتورة لطيفة الواركي، عضو الكتابة الإقليمية لمديونة