اتصال للدول الناطقة باللغة الألمانية، لا من ألمانيا، النمسا أو سويسرا، بالشرق والمسلمين بصفة عامة لم يكن وليد البارحة، بل يرجع في الأساس إلى الحملة الصليبية الثانية (1147ـ1149)، أما بالنسبة للألمان أو النمساويين الذين بحثوا في اللغة والتراث العربي فهم كثر، كما اشتهروا بإسهاماتهم الغنية والجادة، لا من حيث الدقة، الأمانة العلمية أو الموضوعية، وسأقتصر في هذا الإطار على مستشرق واحد فقط والذي قدم للدارسين العرب أنفسهم خدمة لا تستهان لما قام بتوثيق التراث العربي، لا من علوم دينية، كالفقه، التفسير، أو اللغة والنحو وعلوم البلاغة، الطب، الفلسفة، الرياضيات، الشعر والأدب إلخ، ألا وهو "كارل بروكلمان"، حيث تعتبر أعماله ليومنا هذا كمنطلق لأي بحث في التراث العربي الإسلامي، بالأخص مؤلفه الموسوم ب "تاريخ الأدب العربي" الذي يتكون من خمس مجلدات وتقريبا 4800 صفحة، يعني أكثر من مليونين كلمة.
ولكن موضوعنا هذا ليس النبش أو الخوض في ميدان الدراسات الأدبية أو الإستعرابية، الترجمة من وإلى اللغة العربية، بل محاولة تسليط بعض الضو على مؤلف إدوارد سعيد والإستشراق في ألمانيا، النمسا وسويسرا، في كتابه "الإستشراق، المفاهيم الغربية للشرق" الصادر عام 1978، استبعد إدوارد سعيد الإستشراق الألماني، النمساوي والسويسري من نقده. ومرد هذا هو اعتقاده أن الدول الإسلامية كانت مستعمرةً بشكل شبه حصري من قبل بريطانيا وفرنسا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأنها خضعت لاحقا لهيمنة المصالح السياسية للولايات المتحدة بشكل شبه حصري منذ الحرب العالمية الثانية.
في الواقع، لم يهتم الإستشراق الألماني إلا بالمجتمعات الشرقية المعاصرة أو إفريقيا المسلمة منذ نهاية القرن التاسع عشر. بعد الحرب العالمية الأولى، اختفت الدول الشرقية وأفريقيا المسلمة حتى سبعينيات القرن العشرين، حيث بدأ تفاعل متجدد، وإن كان محتشما، مع الشرق في أول الأمر، وبشكل أكثر هامشية، مع أفريقيا المسلمة.
من المؤكد أن إدوارد سعيد لم يأخذ في الاعتبار أن ألمانيا أيضًا، استحوذت على مستعمرات ذات كثافة سكانية مسلمة مهمة في أفريقيا، وهي توغو والكاميرون وشرق أفريقيا الألمانية (1885-1918)، يعني تنزانيا، باستثناء زنجبار، وبوروندي ورواندا، بالإضافة إلى جزء من موزمبيق الحالية. مع هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، انحلت هذه المستعمرات. وهكذا ضمّت بريطانيا تنزانيا، وبلجيكا بوروندي ورواندا.
كما استحوذت الامبراطورية النمساوية ـ المجرية، وكذلك ألمانيا، على مناطق نفوذ مهمة في الإمبراطورية العثمانية ودول إسلامية أخرى. وهكذا يتضح التأثير العام للفئات الاستشراقية غير الأكاديمية في الدول الناطقة بالألمانية في القرن التاسع عشر بشكل غير ممنهج، عندما نأخذ في الاعتبار تأثير عدد من الأعمال الفلسفية أو الأدبية، على الرغم من اختلافها التام في تصورها للشرق، والتي شكلت بشكل كبير الثقافة البرجوازية الألمانية في القرن التاسع عشر: من ملاحظات "هيجل" حول "الإسلام" في "محاضرات في تاريخ الفلسفة" إلى مغامرات البطل الألماني "كارا بن نمسي ورفيقه المسلم "الغبي"، الحاج حلف عمر بن الحاج أبو العباس بن الحاج داود الجسارة"، يعتبر الكاتب "كارل ماي" من أبرز كتاب الرحلة والمغامرة في الدول الناطقة باللغة الألمانية حيث ألف أكثر من 70 كتاب، والمبيعات فاقت 100 مليون نسخة لحد الان.
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، يمكن القول أن الإستشراق الألماني، مثل الاستشراق الفرنسي والهولندي أو البريطاني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، قد تطور بالتزامن مع الدراسات المسيحية وأنماط الفكر الثقافي في مجال الدراسات التاريخية. ومع ذلك، فقد أفرز الاستشراق الأكاديمي الألماني، شأنه شأن التخصصات البريطانية والهولندية أو الفرنسية، باحثين مؤثرين لم يقتصر تركيزهم على العمل اللغوي فحسب، بل قاموا بأبحاث حول السياسات العمومية، الدراسات الإسلامية والاستعمارية لألمانيا والامبراطورية النمساوية ـ المجرية وعلّقوا عليها عن كثب، واستفادوا في بعض الحالات من تجارب المسؤولين الاستعماريين أو ضباط الجيش الناطقين بالألمانية في الخدمة الاستعمارية. وقد طالبوا في نهاية المطاف بإجراء بحوث معاصرة حول الإسلام في المستعمرات الألمانية والإمبراطورية النمساوية-المجرية ومناطق نفوذهما، كما سعوا إلى تحقيق هذا الهدف، مما أدى إلى ضرورة تطوير دراسات إسلامية جديدة وذات طابع علوم اجتماعية.
يُنسب الفضل في الانطلاقة الفعلية للاستشراق الأكاديمي الألماني "الحديث"، الذي لم يعد يركز فقط على الدراسات اللغوية والتاريخية، بل أخذ في الاعتبار أيضًا التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للعالم الإسلامي المعاصر، إلى "كارل هاينريش بيكر" (1876ـ1933)، وبعد رحلته إلى شرق أفريقيا الألمانية، نشر في 1911 دراسةً عن الإسلام بعنوان "موادٌ لمعرفة الإسلام في شرق أفريقيا الألمانية"، ولا تزال مرجعًا هامًا عن الإسلام في شرق أفريقيا حتى يومنا هذا.
بالإضافة إلى "كارل هاينريش بيكر"، يُمكننا أيضًا ذكر أسماء أخرى لمستشرقين ألمان مثل "مارتن هارتمان"، و"غوتثيلف بيرجستراسر"، و"يوجين ميتفوخ"، و"فرانز بابينغر"، وخاصةً "ألويس موزيل"، الذي سعى إلى إرساء منهجية جديدة للدراسات الإستشراقية، أما في ما يخص مقاربة "مارتن هارتمان" للدراسات الاستشراقية، فـقوبلت برفض واسع النطاق في أوساط الدراسات الشرقية. ومع ذلك، لم يكن هذا مرتبطًا بمحاولات مارتن هارتمان لإدخال مناهج علم الاجتماع في الدراسات الشرقية، بل بشخصيته المتقلبة وأسلوبه البحثي.
وعلى عكس المستشرقين الأوائل، ذوي التوجهات التاريخية واللغوية، والذين، باستثناء "إغناز غولدزيهر"، لم يكونوا على دراية بالبلدان والشعوب التي كانوا يشتغلون عليها، سافر هؤلاء المستشرقون الشباب الجدد على نطاق واسع إلى بلدان الشرق، وكانوا منفتحين على العلوم الاجتماعية.