محمد أمغار: العُرف أو "أزرف" في عهد الحماية والاستقلال  

محمد أمغار: العُرف أو "أزرف" في عهد الحماية والاستقلال    د. محمد أمغار  
نُشر بالجريدة الرسمية في عددها 742 ظهير للسلطان مولاي يوسف صدر في 11 شتنبر 1914، يتعلق بإدارة القبائل البربرية وتطبيق أعرافها في القضايا والنوازل أمام القضاء. وجاء في الفصل الأول منه أن القبائل البربرية ستحتفظ بالقوانين والأعراف التي تنظمها وتسيرها، وذلك تحت مراقبة السلطان.  
 
وعلّل السلطان المغربي في ديباجة هذا الظهير الدوافع التي أدّت به إلى اتخاذ هذا القرار بعدد القبائل التي توافق يوميًا على الخضوع للسلطة المخزنية نتيجة التقدم الذي تحققه التهدئة (la pacification)، وحرص هذه القبائل على الاحتفاظ بقوانينها وأعرافها العريقة في القدم. ويرى العاهل المغربي أن مصلحة الرعايا وطمأنينة المملكة تقتضيان الاحتفاظ بالتنظيم العرفي لهذه القبائل (30).  
وتنفيذًا لمقتضيات هذا الظهير، أصدرت عدة قرارات وزارية بهدف إحصاء القبائل ذات الأعراف الأمازيغية، وكذا دورية الإقامة العامة في 22 شتنبر 1915 التي تهدف إلى تنظيم العدالة البربرية. وتتضمن هذه الدورية تعليمات حول اختيار أعضاء الجماعات القضائية العرفية، وتعيين كتاب الضبط المكلفين بتحرير مداولات الجماعات والحفاظ على سجلاتها، وتعيين حكام الجماعات والقاضي الحكم، وأخيرًا متابعة تنفيذ المخالفات.  
وقد بلغ عدد المحاكم العرفية سنة 1929 إحدى وثمانين محكمة بمختلف المناطق التي أصبحت خاضعة للنظام العرفي، وتزايد عددها بعد استسلام القبائل التي استمرت في المقاومة. غير أن سيرها تعرض لمشكل جوهري يتمثل في أن الأحكام التي تصدرها الجماعات لا تتمتع في نظر المصالح العمومية بقوة الشيء المقضي به في حالة رفضها من طرف أحد المتقاضين، لاعتبار أن تنظيم المحاكم الجماعية مبني فقط على تدابير إدارية وينقصها سند قانوني، خلافًا لمحاكم الباشوات والقواد وغيرها التي أُحدثت منذ سنة 1913 بنصوص تشريعية (31).
 
وهذا ما يوضّح أن الجماعة القضائية التي تم إنشاؤها بظهير 1914 والمتمتعة بالسلطة التحكيمية كانت أقرب إلى الجماعة العرفية السائدة قبل الحماية منها إلى محكمة حقيقية (32). وقد أصبحت هذه الجماعة القضائية محكمة عرفية حقيقية مع ظهير 1930.  
 
كانت هذه المحاكم إذن تعقد جلساتها بحضور مندوب الحكومة، وتصدر أحكامًا نهائية في مادة الأحوال الشخصية والعقارية بخصوص القضايا التي تقل عن 1000 فرنك، وأحكامًا ابتدائية قابلة للاستئناف أمام محاكم الاستئناف العرفية المنظمة بمقتضى ظهير 8 ماي 1934 فيما زاد على المبلغ المشار إليه. وكانت هذه المحاكم بربرية-فرنسية: بربرية من حيث الأعراف المطبقة وحكامها، وفرنسية من حيث المسطرة المتبعة أمامها، من حضور كتاب الضبط وتحرير المقالات والاستدعاءات والمحاضر باللغة الفرنسية، أي أن كل الوثائق الصادرة عن المحاكم العرفية كانت تُحرر باللغة الفرنسية (33).  
 
وبذلك يكون هذا النص قد سوّى وضعية عريقة في القدم، لأن القضاء العرفي كان قبل الحماية، وأقره ظهير 1914، ولم يصدر ظهير 1930 سوى لتنظيم القضاء العرفي وفق التشريع الغربي المنظم للهيئات العمومية ببلادنا منذ الحماية، عوض التنظيم الذي كان من قبل، والذي كانت تُفصل فيه النزاعات في غالبية المناطق المغربية من طرف شيوخ القبائل، والفقهاء، ومقدّمي الزوايا، وتحظى برضى الجميع (34).  
 
وقد حالت ردود فعل مكونات الحركة الوطنية المغربية وحساسية المسألة الدينية في الثقافة الأمازيغية المحافظة دون نجاح هذه التجربة المتعلقة بالمحاكم العرفية. وفي هذا الإطار ذهب علال الفاسي إلى القول في موقفه من الظهير المنظم للمحاكم العرفية:  
 
«إن سلطة الحماية عمدت إلى الجماعات القبلية التي كانت مهمتها الدفاع عن القبيلة وتدبير مصالحها المحلية وتمثيلها أمام ولاة الملك، فحوّلتها إلى محاكم، وجعلت مما بقي من بعض الأعراف الجاهلية قانونًا ثابتًا، وبلغ بها الغلو إلى أن ترفع قضايا الجنايات التي تقع في الأراضي البربرية إلى المحاكم الفرنسية ذاتها. وهكذا تُجرّد القسم الأكبر من رعايا البلاد من سلطة الملك الدينية والزمنية التي تتجلى في القضاء الشرعي والمخزني، وتعمد إلى الكتاتيب القرآنية والمساجد فتقفلها وتحول بين الفقهاء ورجال الدين وبين التجول لتعليم الناس أحكام دينهم.»  
ويرى أن الظهير غامض الدلالة، وجرد الحكومة الشريفة من سيادتها على القبائل البربرية، وأحدث محاكم عرفية لم يعرفها المغرب في تاريخه من قبل (35).  
 
ذلك أن علال الفاسي يرى أنه ليس بصحيح أن غاية الحماية من السياسة البربرية هي بعث الأعراف المحلية، وإنما الغاية من ذلك التمهيد للقضاء النهائي على المحاكم المغربية وإلغاء الشريعة الإسلامية. وبما أن الأعراف البربرية -بحسبه- لا تصلح للبقاء ولا وجود لها في كثير من الحالات إلا في مخيلة القائمين على خلقها أو بعثها من مرقدها، وبما أن اللغة الفرنسية أصبحت هي لغة الجماعات العرفية، فقد أصبح من السهل الانتقال التدريجي إلى المحاكم الفرنسية وتطبيق القوانين التي سنتها السلطات الفرنسية للأجانب على الأهالي، وهي مقتبسة من القوانين الفرنسية (36).  
 
وبالفعل، فإن صاحب القرار الفعلي في هذه المحاكم كان هو مندوب الحكومة المفوّض (37)، الذي كانت له الصلاحيات الحقيقية.  
وإذا كانت الحماية أول سلطة سياسية حاولت عصرنة الأعراف من خلال إحداث المحاكم العرفية التي تُعتبر شيئًا جديدًا داخل القبائل المغربية، فإن القوانين المنظمة لهذه المحاكم تتناقض قواعدها مع معطيات العدالة العرفية كما هي متعارف عليها، سواء فيما يخص المساطر المتبعة أو إسناد الاختصاص غير القائم على مبدأ الإقليمية، بقدر ما كان قائمًا على مبدأ الشخصية، أي أن الخضوع لهذا القانون كان قائمًا على انتماء الفرد للقبيلة. هذا المبدأ أفرغ المحاكم المحدثة من محتواها.  
 
غير أنه مع ذلك، فإن المرجعية العرفية شكّلت إحدى الدعائم القانونية في النظام التشريعي المغربي لعهد الحماية، ولم يتم إلغاء التنظيم القضائي العرفي إلا في بداية حصول المغرب على الاستقلال، بمقتضى ظهير صادر في 25 غشت 1956، الذي أحدث محاكم تشريعية في القبائل ذات العرف البربري سابقًا، حيث صار تطبيق مدونة الأحوال الشخصية التي صدرت بشأنها ظهائر سنة 1958 يتم بكيفية موحدة على جميع المغاربة.  
 
وهكذا ارتفعت وتيرة الإنتاج التشريعي (38) في الفترة الممتدة ما بين 1956 و1960، حيث كانت الدولة مطالبة بالاستجابة لرغبة الحركة الوطنية الداعية إلى توحيد ومغربة القوانين، والقضاء على كل ما من شأنه -في نظرها- أن يهدد الوحدة الوطنية.  
 
وفي هذا الإطار كانت أولى الإجراءات التي اتُّخذت مباشرة بعد الاستقلال هي إصدار ظهير 7 مارس سنة 1956 القاضي بإلغاء القسم الجنائي العرفي الذي كان موجودًا بالمحكمة العليا الشريفة، وبعده ظهير 14 أبريل سنة 1956 الذي أحدث المحاكم العادية لتحل محل المحاكم العرفية، وأيضًا ظهير 25 غشت 1956 القاضي بإحداث محاكم على رأسها حكام مفوضون في دائرة نفوذ المحاكم العرفية (39).  
 
وهكذا، فإن النخب المدينية المكونة للحركة الوطنية، وأمام الحماس المصاحب للحصول على السلطة، لم تأخذ بعين الاعتبار في قراراتها أن أي بناء تشريعي يجب أن يوافق الحقيقة الاجتماعية والإنسانية والتاريخية، ولو على وجه التقريب، قبل أن يتم الإقرار بصفة نهائية بتعويض أي من القوانين السائدة.  
 
ويرجع اتخاذ هذه القرارات إلى أن أغلب العناصر المكونة لهذه النخبة تجهل الواقع السوسيولوجي للبلاد (40)، ذلك أن تكوينها لا يسمح بمعرفة بلدها إلا من خلال ذواتها، وتنظر إلى الشعب وقضاياه في الغالب عبر قوالب جاهزة مأخوذة ومقتبسة من الخارج (41).  
وهذا ما أدى إلى تلاشي دور الأعراف داخل القبيلة كمؤسسة إدارية واقتصادية، ثم نُهجَت استراتيجية التنمية من الأعلى بشكل يتجاهل الخصوصيات المحلية والثقافية، مما ساهم في تعثر وتيرة تحديث العالم القروي بصفة عامة.  
 
ولهذا فإن استمرار نخب الدولة في الإنتاج اللامحدود للتشريعات الحديثة التي تطابق -في أغلب الأحيان- مع مجتمع لم يوجد بعد ولم يطالب به أحد (42)، قد سمح للعديد من الأعراف بالبقاء والاستمرارية داخل المتخيل الجمعي.  
 
ويُلاحظ أن سلطات المغرب المستقل حاولت إعادة الاعتبار لتطبيق الأعراف المحلية في كثير من مناطق البادية المغربية من خلال إحداث أجهزة قضائية محلية سنة 1974 ضمن التنظيم القضائي الجديد للمملكة.  
 
هذه المحاكم التي تُعرف بقضاء الجماعات والمقاطعات تتكون من قضاة عرفيين، وتصدر أحكامها اعتمادًا على الأعراف القبلية والمحلية، وتُعتبر هذه التجربة القانونية والقضائية محاولة من مشرّع مغرب الاستقلال للحفاظ على بعض الممارسات العرفية كأداة للتنظيم وحل النزاعات في القضايا البسيطة جدًا.  
 
إن الظهير المنظم لهذه المحاكم، أي محاكم الجماعات والمقاطعات، نصّ على أنها لا يحق لها أن تبتّ في قضايا العقار كيفما كان نوعه، بالإضافة إلى أن قيمة الطلب أمام هذه المحاكم لا يجوز أن تتعدى 1000 درهم تحت طائلة عدم الاختصاص.  
وقد تم إلغاء محاكم الجماعات والمقاطعات التي كانت تضم حكامًا ملمين بالأعراف والتقاليد، وحلّ محلها قضاء القرب كقسم داخل المحاكم الابتدائية.  
هذه إذن بعض النقط المتعلقة بطبيعة القاعدة العرفية والإشكاليات السياسية التي طرحتها على الفاعل السياسي باعتبارها جزءًا من القواعد المعيارية المستبطنة من طرف الإنسان المغربي.