عبد العزيز كوكاس: التيه.. الدرس الأعظم في السفر

عبد العزيز كوكاس: التيه.. الدرس الأعظم في السفر عبد العزيز كوكاس
أيُّها المسافرُ، آثارُ خُطاكَ
هيَ الطَّريقُ الوحيدةُ ولا شيءَ آخرَ.
أيُّها المسافرُ، ليسَ ثمةَ من طريقٍ،
فأنتَ مَنْ يصنعُ طريقَهُ وهو يمشِي.

أنطونيو ماتشادو
 
يعتبر التيه في السفر ثيمة مركزية، فهو لصيق بكل تجربة انتقال، إنه تلك المساحة الرمادية بين ما نظن أننا نعرفه وما يُصرّ العالم على مفاجأتنا به. يُشبه العشق الأول: مربك، خادع، لا يُنسى.. ليس التيه هو ألاّ تعرف أين تذهب، ليس ضياعا في اللاأين تحسه حين تفقد اللغة التي كنت تفهم بها ذاتك وأن تسأل عن طريقك بلغة لا تتقنها، فيجيبك الناس بابتسامات كأنك طفل يطلب تفسيرا للغيم.. لا تنتظر شيئًا في التيه، لا الطائرة، لا القطار، لا الفندق، لا البرنامج. تنتظر فقط أن تنجو بشيء من الدهشة. أن تعود وقد فهمتَ درسًا جديدًا في الخسارة النبيلة: أن تُحرم من كل شيء ثم تُعطى نفسك. ليس التيه حالة طارئة في السفر إنه لبّ التجربة. هو ما يجعل السفر لا يُشبه نشرات السياحة، لأنه أقرب إلى التأمل البوذي أو طواف دراويش وجدوا في الدوران كشفًا أعمق من الثبات.
تعتقد أن إتقانك للغات، اطلاعك على ثقافة البلد الذي تزوره، معرفة الأماكن الأقل أمانا والساعات التي تصبح فيها مهددا، وتجهيزك خريطة طريقك، المتاحف الأنيقة، الحدائق الجميلة، المكتبات الكبرى، المعالم السياحية والتاريخية المميزة للبلد... تكفي لتضمن عبورًا هادئًا، آمنا، دون قلق. لكنك حين تصل، تكتشف أن كل تلك "الأسلحة المعرفية" لا تصمد أمام أول ارتباك حقيقي: حين لا تجد عنوان الفندق، حين تُغلق المحطة قبل وقتها، حين تخذلك الشبكة العنكبوتية …فجأة، أنت لا شيء، مجرد كائن مرتجف، غريب، ينظر حوله كمن ضاع من نفسه. 
يُعيدك التيه إلى حجمك الحقيقي: قزم، ضئيل، صغير، محدود. لكنه في الوقت ذاته، جميل، قابل للتعلم، للتعاطف وللحب. تدرك فجأة أن المعرفة ليست امتلاكًا بل بحثًا دائما. وأن "الثقة بالذات" شيء هش حين لا يكون منسوجا بمحبة الآخر ومحبة الذات حين تُخطئ، وحين تتلعثم، وحين ترتبك. تنهار الأنانية بهدوء وتنهض المحبة.
كلما وجدتَ نفسك تائها وفي حاجة إلى من يرشدك، كلما خرج منك صوت متواضع: "من فضلك، هل يمكنك مساعدتي؟" وفي اللحظة التي يبتسم فيها الآخر، ويقودك أو يزيح سحابة قلق من سمائك، تكتشف أن المحبة لغة كونية لا تحتاج ترجمة. هذا هو الدرس الكبير: أننا جميعا كائنات قابلة للخطأ ومستحقة للرحمة. هشاشتك هي هويتك الأجمل في السفر، لم تعد تخجل من أنك لا تعرف، لم تعد تتظاهر بالفهم، تُضحكك نبرتك المرتبكة حين تحاول أن تطلب خبزًا بلغة تجهلها. تدرك حينها أنك تطهّرت من الغرور وأصبحت شفافًا بما يكفي لأن تتلقّى العالم بصدر مفتوح.
في كوبنهاغن، ذات مساء شتوي رمادي، خرجت من الفندق بلا هاتف، بلا ساعة، بلا رغبة محددة. مشيت، مررت بأحياء تشبه الصمت، محلات مغلقة، دراجات نائمة قرب الأشجار، نوافذ مضاءة خلفها، ظلال آدمية خلف النوافذ تشرب الشاي أو تتخاصم أو تنظر للفراغ.
كنت أعبر كأنني شبح حي، بلا عنوان، بلا لغة. وكل خطوة كنت أُدرك أنني أبحث عن إحساس. كنت أريد أن أُفلت من كل شيء: من لزوميات الهوية، من التوقيت، من المنطقي والنافع.
في زاوية شارع مهجور، رأيت صبيًّا صغيرا يرسم بالطباشير على الرصيف، لوحده، في عزّ البرد. وقفت أتأمله، ثم جلست قربه دون كلمة. ابتسم لي وناولني قطعة طبشور، فبدأنا نرسم دوائر ومربعات على الأرض. لم نسأل بعضنا عن اسمينا. لم يكن هناك من يشاهد. لم ألتقط صورة. فقط كنت هناك.. ذاك هو معنى أن تمشي بلا وجهة: أن تجد نفسك تفعل أشياء لم تكن لتفعلها وأنت تخطط كل شيء، أن تلتقي بذاتك التي لا ترفع يافطة ولا تطلب إعجابًا.
التيه هو درس الحياة الأعظم في السفر حيث تكتشف أنك لم تكن تتحكم في شيء وتتعلم فضيلة الإصغاء إلى التفاصيل: طريقة قهوة الآخر المختلف، ملامح مقاعد الباص، وجوه النساء في المحطات، قسوة الهواء ودفء العابرين الذين يعطونك ماءً أو يرسمون لك على الهواء كيف تصل وهم يبتسمون ويعتذرون. التيه هو أن تنسى من أين أتيت، دون أن تعرف إلى أين تذهب، لكنك تمشي لأن الخطو نفسه صار طقسا روحيا، ولأنك تحس، دون أن تدري، أن لا خلاص من العالم إلا بالمرور فيه.
في التيه، نكتب أنفسنا من جديد كأشخاص فقدوا الطريق، فوجدوا المعنى بدون أي ملمح بطولي. لأن الرَّحّال لا ينتصر على أحد، قد تقهره ذاته قبل الغريب، قد تحمله عاصفة رملية أو ثلجية أو هيجان بحر إلى حدود الموت أو تهديد من متسكع في ظلمة الليل.. وحين ينجو، يبتسم ويمشي.. 
من قال إن التيه لعنة؟ من قال إن علينا دائما أن نعرف أين نحن وإلى أين نمضي؟ في المدن الغريبة، لا شيء يمنحك سرّها الحقيقي مثل الضياع. لا الخرائط، لا التطبيقات ولا النُّصُب التذكارية، بل الخطأ الجميل في الاتجاه، الانحراف الطفيف عن الدليل الورقي أو الإلكتروني، ذلك الممر الضيّق الذي لم يرشدك إليه أحد لكنه فتح قلبه لك كصديق قديم.. أن تضيع، يعني أن تبدأ أخيرا في رؤية ما لا يُرى، أن تعبر شارعا لم يكن ضمن الخطة، أن تصادف حديقة صغيرة لا يعرفها السيّاح، أن تدخل مكتبةً مهملة قرب كنيسة بلا اسم،
أن تأكل في مطعم شعبي بعيد عن نصائح مطويات الرحلات السياحية وموقع "تريب أدفايزر"، وتبتسم لأن النادل أحس بجوعك قبل أن يفهم لسانك.
لا تفرض عليك المدن الغريبة شكلًا معينا للحضور، لا تحاول أن تُهذّب غرابتك بل تتركك تتسكع كأنك أحد أبنائها المنسيين. المدن التي لا تحفظك، هي الأكثر صدقًا. لا تحتفل بك، لكنها تمنحك حريّة أن تكون غير مرئي، أن تختبر الأماكن كمن يبحث عما لم يُكتب في دليل المسافرين. في الضياع، يولد الاكتشاف الحقيقي. كل زاوية قد تخبئ حكاية. 
أعرف أناسا زاروا باريس عشرات المرات، لكنهم لم يضلّوا طريقهم مرّة. لذلك لم يعرفوها حقًا. عرفوا متحف اللوفر وكاتدرائية نوتردام، برج إيفل المضاء، الشانزليزيه وقوس النصر والطاحونة الحمراء والقلب المقدس... عرفوا شوارعها الكبرى لا قلوبها الصغيرة. أما أنا، فقد ضعت فيها مبكرا، لذلك صارت تعرفني ولو قليلاً. 
أن تضيع في مدينة غريبة هو أن تنزل إلى جغرافيتها الباطنية، حيث الأمكنة تُعاش كدهشة. حيث كل زاوية مفاجئة وكل انحراف عن المسار المخطط يمنحك متعة الطارئ وسحر ما لا يتكرّر. الضياع هو تخلٍّ حرٌّ عن الادّعاء بأننا نعرف. فعل تواضع أمام المكان كأن تقول للمدينة: "رجاء، أنا لا أريد أن أسيطر عليك، أودّ فقط أن تمشين بي قليلاً." ربما الضياع، في النهاية، هو الطريق الوحيد لمعرفة الجغرافيا السرية للأمكنة التي لا تفتح قلبها إلا لمن فقد بوصلة السياح.
قد يبدو المشي بلا هدف تبديدًا للوقت لكنه في الحقيقة أصدق طريق للعودة إلى النفس. حين تفقد البوصلة، تظهر الأشياء التي لم تضعها الخريطة: نظرة عابر، نافذة مفتوحة على الموسيقى، قطة تُدلّي ذيلها من شرفة أو طفل يقول لك: "هالو"، كأنك ضيف مرحب به في الوجود. إننا لا نضيع حين لا نعرف إلى أين نذهب. نضيع حين نرفض أن نسمح للعالم بأن يفاجئنا. يقول جوزيف كامبل: "يبدأ السفر الحقيقي حين تترك خريطتك خلفك". 
تعني اللاخطة في السفر أن تتخلى عن جدول مواعيد صارم، وأن تسمح لنفسك بالتوقف حيث تجذبك الأشياء غير المتوقعة: زقاق ضيق، سوق شعبي، لقاء عابر. إنها فرصة لتجربة العالم بطريقة أكثر حميمية وإنسانية. ما نفع الخريطة إذا كانت اللذة في الضياع؟ نكتشف أجمل الأشياء في السفر، حين نضل الطريق وحين نرتكب "الخطأ" فننزل في مدينة لم نخطط لزيارتها، وحين نُغلق الهاتف لنسمع صوت خطواتنا الداخلية. هكذا فقط نعرف أننا لا نسافر بحثًا عن وجهة ولكن لأننا لا نحتمل الركود في اليقين.
القبول باللاخطة هو جوهر الحكمة الساخرة، أن تكون الخسارة جزءًا من العرض المسرحي، أن تضحك من ارتباك الذات اعترافًا بإنسانيتها وأن تحتفل بالفوضى كمن يحتفل بعيد ميلاده: لأن لا شيء يُتوقّع. العبث، كما في مسرح بيكيت، احتمال مفتوح، وكما في رسومات جان ميشيل باسكيات التعبيرية الجديدة، حيث يبدو العبث طاقة لم تُروّض بعد.