يسلط محمد البوزيدي، استشاري في التدبير، الموارد البشرية وهندسة التكوين، الضوء على الدور الخفي الذي يقوم به معلّقو البيانات في تطوير الذكاء الاصطناعي، موضحاً أنهم يشكلون اليد العاملة الصامتة التي تُغذي الخوارزميات عبر تصنيف الصور والنصوص والأصوات بدقة.
وأوضح البوزيدي، وهو مدير عام المكتب الاستشاري NAITECH، للوطن الآن، أنه رغم أن هذه المهام أساسية لنجاح أنظمة الذكاء الاصطناعي، إلا أنها تُنفذ في ظروف صعبة وغير مستقرة، غالباً في دول ذات أجور منخفضة مثل مدغشقر والفلبين وكينيا.
ويشبّه البوزيدي هذه الوضعية بأشكال الاستغلال التي رافقت الثورات الصناعية السابقة، حيث تجني الشركات التكنولوجية العملاقة أرباحاً ضخمة بينما يظل المعلقون في موقع هش، يواجهون ضغطاً عالياً، أجوراً زهيدة، وأحياناً آثاراً نفسية بسبب طبيعة المحتوى الذي يعالجونه.
يقوم الصعود المذهل للذكاء الاصطناعي على مفارقة غالبًا ما يتم تجاهلها: فخلف الخوارزميات الأكثر تطورًا، يقف عمل بشري ضخم، متكرر، وغير مرئي في الغالب. إن معلِّقي البيانات يشكّلون اليوم اليد العاملة الصامتة التي تغذّي أنظمة الذكاء الاصطناعي، ليعيدوا إنتاج في الاقتصاد الرقمي نفس أنماط الاستغلال التي ميّزت الثورات الصناعية السابقة.
العمل غير المرئي للتعليق على البيانات
يقوم عمل التعليق على البيانات على وضع علامات وتصنيفات وهيكلة كميات هائلة من المعلومات الخام، حتى تتمكّن خوارزميات التعلّم الآلي من العمل. عمليًا، يعني ذلك تحديد الأشياء داخل الصور، أو نسخ التسجيلات الصوتية، أو تصنيف النصوص حسب مضمونها العاطفي، أو التحقق من مدى ملاءمة الردود التي تولّدها النماذج اللغوية.
قد تبدو هذه المهام بسيطة، لكنها تتطلب دقة متناهية واستمرارية لا يمكن أن يضمنها سوى البشر. كل بيكسل في صورة طبية يجب أن يُجزَّأ بدقة، وكل نبرة عاطفية في تعليق يجب أن تُلتقط، وكل انحياز محتمل في جواب يصدر عن الذكاء الاصطناعي يجب أن يُكشف. فالجودة التي تتم بها هذه العمليات تحدد بشكل مباشر موثوقية الأنظمة الذكية المستخدمة في مجالات حساسة مثل الصحة أو النقل الذاتي.
جغرافيا الاستغلال الرقمي
تقوم صناعة التعليق على البيانات على منطق جيوسياسي واضح: حيث تتركّز مراكز القرار والأرباح في الدول المتقدمة، بينما يُرحَّل التنفيذ إلى مناطق ذات يد عاملة منخفضة الكلفة. فأماكن مثل مدغشقر والفلبين وكينيا وبعض مناطق الهند أصبحت ورشًا عالمية للذكاء الاصطناعي.
هذا الانقسام الدولي للعمل الرقمي يعيد إنتاج التفاوتات ويزيدها حدة. فكثير من المعلّقين على البيانات حاصلون على شهادات جامعية ويتقنون عدة لغات، لكنهم يقبلون برواتب زهيدة مقارنة بالمعايير الغربية. فالمعلق في مدغشقر قد يجني ما بين 100 و300 أورو في الشهر مقابل عمل يتطلب تركيزًا وخبرة عالية، في حين تبني شركات الذكاء الاصطناعي، التي تقدَّر قيمتها بمليارات الدولارات، نجاحها على هذه اليد العاملة الرخيصة. وتزداد حدة هذه المفارقة بسبب الطبيعة الهشة لهذا العمل.
ظروف عمل هشة
غالبًا ما يتم إنجاز أعمال التعليق على البيانات في ظروف تشبه "ورش العرق" في قطاع النسيج أو مراكز النداء. يواجه المعلّقون وتيرة عمل مكثفة، وجداول غير منتظمة مفروضة وفق فروق التوقيت مع مقرات الشركات الموكلة، إضافة إلى مراقبة رقمية صارمة لقياس إنتاجيتهم.
تتفاوت قسوة هذا العمل بحسب نوع المهمة. فالتعليق على المحتويات العنيفة أو الصادمة من أجل تدريب أنظمة المراقبة قد يعرض العمال لاضطرابات نفسية مستديمة. بينما يتطلب التعليق على بيانات طبية دقة عالية، حيث يمكن لأي خطأ أن تكون له عواقب خطيرة. كذلك، فإن تكرار هذه المهام يولّد إجهادًا بصريًا، واضطرابات عضلية، وإرهاقًا ذهنيًا.
وعي جماعي في طور التشكل
أمام هذه الظروف، بدأ يتشكل وعي جماعي تدريجيًا. فقد ظهرت مبادرات نقابية، خاصة في شرق إفريقيا حيث تتركز منصات التعليق، كما تحاول منظمات مثل Turkopticon وضع آليات لتقييم أرباب العمل من أجل تعزيز الشفافية.
في المقابل، بدأت بعض الشركات الغربية تتبنى ممارسات أكثر أخلاقية، مثل ضمان رواتب لائقة وظروف عمل مقبولة. غير أن هذه المبادرات تظل محدودة مقارنة بضغط المنافسة الذي يدفع إلى تقليص التكاليف.
رهانات أخلاقية ومجتمعية
تطرح اقتصاديات التعليق على البيانات أسئلة جوهرية حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي. كيف يمكن تبرير أن فوائد هذه التكنولوجيا الثورية لا تُتقاسم مع من يجعلونها ممكنة؟ وأي مسؤولية تتحمّلها شركات الذكاء الاصطناعي تجاه سلسلة التوريد الخاصة بالبيانات؟
إلى جانب العدالة الاجتماعية، فإن جودة التعليق تحدد موثوقية الذكاء الاصطناعي ذاته. فالمعلّقون الذين يتقاضون أجورًا زهيدة، أو يعملون تحت ضغط شديد، أو يفتقرون إلى التدريب الكافي، يقدّمون بيانات أقل جودة، ما يولّد انحيازات وأخطاء تتضخم لاحقًا في الأنظمة المُستخدمة. وهكذا تصبح استغلالية اليد العاملة خطرًا منهجيًا يهدد المنظومة ككل.
نحو اعتراف ضروري
إن مستقبل الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يتجاهل مسألة وضع المعلقين على البيانات. فهؤلاء ليسوا مجرد منفذين، بل مساهمون أساسيون في الثورة التكنولوجية الجارية. إن خبرتهم وأحكامهم وجهودهم تستحق الاعتراف والتعويض العادل.
بدأت تظهر نماذج بديلة، مثل التعاونيات الخاصة بالمعلقين أو أنظمة المشاركة في أرباح شركات الذكاء الاصطناعي. ورغم أن هذه المبادرات ما زالت في بدايتها، إلا أنها تفتح الطريق نحو اقتصاد بيانات أكثر عدلًا واستدامة.
إن قضية المعلقين على البيانات تختزل التحديات الأخلاقية للذكاء الاصطناعي المعاصر. فهي تذكّرنا بأن وراء كل ابتكار تكنولوجي هناك قرارات سياسية واجتماعية تحدد من يستفيد من التقدم، ومن يدفع ثمنه. إن الاعتراف بعمل هؤلاء وتقديره يشكل رهانًا أساسيًا لبناء ذكاء اصطناعي يخدم الإنسانية جمعاء".