يبدو أن الصورة المترسِّخة عن نخبنا السياسية في الأحزاب أو في الحكومات المتعاقبة هي أنها نخب تفتقر إلى الإلمام باستراتيجيات التواصل السياسي في أبعاده المجتمعية المختلفة، بما هو تواصل يتيح لهذه النخب النهوض بالمهام التي إليها تحديدا يُسندها الدستور. فطبقا للفصل السابع من الدستور المغربي ''تعمل الأحزاب السياسية على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية".
لا شك أن هذه المهام توجد في كل الديباجات التي على أساسها تتشكل الأحزاب في بلادنا. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو هل يوجد في أحزابنا خبراء في التواصل ينكبون على اقتراح البرامج والآليات التي تسمح للقيادات المحلية أو الوطنية، ولكافة المناضلين بأن يمتلكوا من القدرات التواصلية ما يكفُل لهم إقناع المواطنين بالانخراط في الحياة السياسية، والمشاركة الفاعلة فيها؟ وهل استطاع أي حزب أن يشتغل في هذا المنحى بما يمكِّنه من تقوية وشائج مستمرة من التواصل مع المواطنين بحسب فئاتهم وانتظاراتهم على نحو ما هو معمول به في أحزاب البلدان ذات التقاليد الديمقراطية العريقة؟
بل هل نملك في المغرب أدبيات للتواصل السياسي يمكن البناء عليها في تطوير أشكال أخرى أوسع وأشمل من التواصل يكون بمقدورها استيعاب ما استجد من وسائط وفضاءات تواصلية أكثر تعقيدا ورحابة وفاعلية؟
لا أعتقد أن مثل هذه البرامج موجودة، أو أن التفكير في تطويرها يشغل اهتمام النخب. فالسائد هو اعتماد طرق تقليدية و"مناسباتية" لم تعد كافية لضمان انخراط المواطنين في الحياة السياسية، ولا جديرة بأن تستجيب لمتطلبات الوعي بالأهمية التي يحظى بها تدبير الشأن العام في الوفاء بتطلعاتهم والارتقاء بمطامحهم.
ولهذا كلما تأخرت النخب في الولوج إلى الديناميات التواصلية المتسارعة في عصرنا الراهن، ستجد نفسها في أقرب وقت معزولة وقاصرة عن الاضطلاع بالحد الأدنى من المهام الموكولة لها.
ولعل أحد مظاهر هذا القصور هو أن ما من حزب كان مستعدا سلفا وقادرا على الدخول في تواصل مباشر مع الشباب الذين خرجوا إلى الاحتجاج في الشوارع والساحات العامة دون أي نمط من التأطير التقليدي الذي اعتادت عليه أحزابنا. ذلك لأن حس الانتماء إلى هذا الحزب أو ذاك أمسى ضعيفا لاعتبارات تنظيمية وديمقراطية معروفة، بل ما بات لافتا هو أن حس الانتماء إلى الوسائط الجديدة للتواصل هو الذي أضحى شبابُنا يجدون فيه متسعا مناسِبا لإرادتهم في التعبير عن آرائهم والإفصاح عن غضبهم واحتجاجاتهم...
هذا التأخر الواضح في ولوج أحزابنا إلى الديناميات التواصلية المشار إليها ليس له من تفسير إلا كون القائمين على هذه الأحزاب يخشون من التوسُّع التنظيمي الذي قد يفضي إلى التضحية بمكاسبهم ومواقعهم. وهو ما يتعارض صراحة مع منطوق الدستور من جهة، ويحول من جهة ثانية دون استتباب المنظومة الديمقراطية بمعاييرها القيمية ومقتضياتها العملية. كما يفوِّت على فضائنا العمومي كثيرا من الإمكانات التقويمية التي تسمح له بأن يرقى ديمقراطيا وسياسيا بنحو يؤدي إلى محاصرة ما يبرز من أسباب الاختلال، ويظهر من حيف أو فساد.
بل إن ما على نخبنا الحزبية والحكومية الحالية أو القادمة أن تعلمه هو أن الطفرة التواصلية التي باتت تتناسل وتتعمق في العالم صارت جزءا لا يتجزأ من المنظومات الديمقراطية بمفهومها المتجدد، الأمر الذي يستوجب على وجه الاستعجال من نخبنا أن تراجع استراتيجياتها التواصلية مع المواطنين، وأن تعيد النظر في أساليب تدبيرها التقليدية للشأن العام. فالطفرة كاسحة لا ريب فيها، وهي ذات عواقب لا يمكن مواجهتُها إلا بالتعجيل قبل كل شيء في درء المفاسد المحدقة بنا، ففي درء كل مفسدة مهما كانت صغيرة جلبٌ لمصالح كبيرة تعم البلاد والعباد...