في نهاية شتنبر وبداية أكتوبر 2025، شهدت مدن مغربية متعددة موجة احتجاجات شبابية لافتة قادها جيل Z، أي الشباب المزداد بين 1997 و 2012. هؤلاء الذين كبروا في زمن التحولات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، رفعوا شعارات واضحة وصريحة تطالب بتحسين الصحة والتعليم وفرص الشغل.
لم تكن هذه الشعارات غامضة أو شعبوية، بل كانت تعكس وعياً عميقاً بصلب الإشكالات الاجتماعية التي يعاني منها المغرب اليوم.
. مشروعية المطالب:
أول ما يجب التأكيد عليه أن هذه المطالب مشروعة تماماً، ولا يمكن لأي أحد أن ينكر وجاهتها. فالشباب الذين خرجوا إلى الشارع لم يطلبوا المستحيل، ولم يرفعوا مطالب فئوية ضيقة، بل تحدثوا عن أركان العدالة الاجتماعية:
• الصحة: لأن الكرامة لا يمكن أن تكتمل في ظل مستشفيات تفتقر إلى الموارد البشرية والتجهيزات.
• التعليم: لأنه بوابة الارتقاء الاجتماعي، ولا يمكن أن يكون في المغرب “تعليم للنخبة” و”تعليم للعموم” بمعايير متباينة.
• الشغل: لأنه جوهر الاستقرار النفسي والاجتماعي، ولأنه السبيل لإطلاق الطاقات وإبداع الشباب بدل تركهم فريسة للإحباط أو الهجرة.
إن خروج جيل Z بهذه المطالب رسالة واضحة: جيل المستقبل يرفض الانتظار أكثر.
. خطورة الانحراف والاستغلال:
لكن في مقابل هذا الزخم، هناك خطر حقيقي: أن يتم استغلال هذه الاحتجاجات من الداخل أو الخارج. فمن الداخل، قد يحاول بعض الفاعلين السياسيين أو النقابيين ركوب الموجة لتحقيق مصالح ضيقة أو لتصفية حسابات انتخابية. ومن الخارج، هناك أطراف لا تخفي عداءها لوحدة المغرب واستقراره، وقد تبحث عن تحويل مطالب مشروعة إلى فوضى مفتوحة.
وهنا تبرز مسؤولية جيل Z: أن يبقى وفياً لشعاراته الأصلية، وألا يسمح بتحويل مطالبه إلى أوراق ضغط في أجندات لا علاقة لها بهمومه اليومية.
. رسالتكم وصلت… وجلالة الملك استمع
يمكن القول بكل وضوح إن رسالتكم وصلت.
فالمطالب التي رفعتموها أصبحت اليوم جزء من النقاش الوطني، وموضوعاً لا يمكن تجاوزه. والأهم أن الملك محمد السادس لطالما كان السبّاق إلى التنبيه لخطورة هذه الاختلالات، ودعا مراراً إلى إصلاح عميق يضمن الكرامة والعدالة. وقد أبانت التجربة أن المؤسسة الملكية كانت دائماً الملاذ وضامن التوازن والاستقرار.
لذلك، فإن الثقة في أن هذه المطالب ستُترجم إلى قرارات وإصلاحات هي ثقة مشروعة، خاصة وأن المغرب مقبلعلى تحولات كبرى في مجالات الاستثمار، والانتقال الطاقي، وإصلاح المنظومة الاجتماعية.
. الاستقرار..حجر الزاوية
هنا تبرز معادلة أساسية: لا إصلاح بدون استقرار.
قد يُغري بعض الأصوات رفع سقف التصعيد، لكن التجارب في المنطقة والعالم أثبتت أن أي انزلاق نحو الفوضى يُجهض كل حلم بالإصلاح. فالمستشفيات والمدارس وفرص الشغل تحتاج إلى استقرار سياسي ومؤسساتي لتُبنى وتُدار.
من هنا، فإن عودة الشباب إلى مدارسهم وجامعاتهم وبيوتهم لا تعني الاستسلام أو النسيان، بل تعني أنهم سلموا الرسالة وتركوا المجال للإصلاح أن يأخذ مجراه، مع يقظة دائمة لمواصلة المطالبة بالحقوق بأسلوب حضاري وسلمي.
. من الاحتجاج إلى المشاركة:
اللحظة اليوم تاريخية: جيل Z أثبت أنه موجود وأنه واعٍ. لكن المرحلة المقبلة تطرح سؤالاً أكبر: كيف يمكن تحويل طاقة الشارع إلى طاقة بناء؟
• عبر المشاركة السياسية: التسجيل في اللوائح الانتخابية، الانخراط في الأحزاب أو تأسيس مبادرات شبابية جديدة.
• عبر المجتمع المدني: الجمعيات والمنظمات التي تشتغل على التعليم والصحة والتشغيل تحتاج إلى دماء جديدة.
• عبر المبادرة الفردية: ريادة الأعمال، المشاريع الرقمية، المبادرات الثقافية.
إن أخطر ما قد يقع هو أن يترك الشباب الساحة فارغة، لأن الفراغ لا يبقى فارغاً طويلاً، بل يملؤه الفاسدون والمفسدون الذين يعرفون جيداً كيف يستغلون غياب الكفاءات النظيفة.
. نحو أفق جديد
جيل Z اليوم أمام مسؤولية مضاعفة: الحفاظ على وحدة الوطن واستقراره من جهة، والمساهمة في تغيير واقعه من جهة ثانية.
ولعل أهم ما يجب أن يخرج به الشباب من هذه اللحظة هو أن الطريق نحو مغرب أفضل يمر عبر الملكية الدستورية كضامن للوحدة والاستقرار، وعبر إعادة تجديد النخب السياسية بمشاركة فعلية من الشباب، لا بالاكتفاء بالاحتجاج من بعيد.
خلاصة:
الاحتجاجات الأخيرة لم تكن عابرة، بل كانت ناقوس إنذار.
جيل Z أظهر أنه واعٍ، أنه يريد مستقبلاً أفضل، وأنه مستعد للضغط من أجل تحقيقه. لكن عليه أيضاً أن يدرك أن المعركة ليست في الشارع فقط، بل في صناديق الاقتراع، في المؤسسات، وفي المشاريع الملموسة.
الرسالة وصلت، والملك استوعبها. الآن، المسؤولية الكبرى أن يحافظ الشباب على سلميتهم ووعيهم، وأن يساهموا بجرأة في صياغة مستقبل المغرب، بعيداً عن أي استغلال أو ركوب سياسي.