في خريف 2025، دخل المغرب لحظة مفصلية تتجاوز حدود الاحتجاج العابر، لتكشف عن أزمة مركبة، حيث يلتقي الغضب الشعبي المتصاعد مع العجز السياسي، في سياق محلي مشحون، وإكراهات دولية ضاغطة، واستحقاقات كبرى على الأبواب.
من احتجاجات سلمية ذات طابع اجتماعي واضح، إلى انزلاقات ميدانية نحو المواجهة والعنف في مدن كإنزكان ووجدة، بات المشهد اليوم يتطلب أكثر من مجرد بلاغات حكومية. إنها لحظة الحقيقة: هل نحن أمام أزمة مؤسساتية بنيوية؟ أم فرصة للقطع مع مرحلة والعبور إلى أخرى؟
من الحراك السلمي إلى الإنذارات الميدانية
ما بدأ قبل أسابيع كاحتجاجات منظمة، رقمية وسلمية، تقودها فئة "الجيل Z"، بدأ اليوم يعرف مظاهر توتر وتدافع في بعض المناطق. إنزكان، وجدة... على سبيل المثال لا الحصر، مدن تعرف حراكاً بدأ يخرج عن إيقاعه السلمي، بفعل غياب التأطير السياسي، والتردد الأمني، والشلل الحكومي.
في إنزكان، تحوّلت مظاهرة مطلبية إلى مواجهة بعد تدخل أمني، وفي وجدة، قُطعت الطرق وأُضرمت نيران، وبدأ خطاب الغضب يتجاوز سقف المطالب الاجتماعية إلى رفض شامل للنموذج السياسي والاقتصادي الحالي.
والمقلق أن هذا التحول لا يأتي من فراغ. بل هو نتيجة الفراغ السياسي الحزبي، وتآكل أدوات الوساطة، وفقدان الشباب لأي قناة للتعبير الشرعي غير الشارع.
شعارات جديدة... ورسائل سياسية صريحة
أحد أكثر الشعارات تكراراً في المظاهرات الأخيرة هو:
"نريد الصحة والتعليم، لا كأس إفريقيا ولا كأس العالم."
هذا الشعار لا يُهاجم الرياضة، بل يختزل موقفاً مجتمعياً ناقداً لأولويات الجهات الحاكمة. كيف يمكن إنفاق المليارات على البنية التحتية الرياضية والفندقية، بينما تنهار المستشفيات العمومية، وتتراجع جودة التعليم، وتُهمّش الفئات الوسطى؟
في هذا السياق، أصبح من الواضح أن كأس إفريقيا (ديسمبر 2025)، التي كانت تُراهن عليها الدولة كواجهة إنجاز، قد تتحول إلى محك دولي، واختبار داخلي. فأي خلل تنظيمي، أو استغلال مفرط للدعاية الرسمية، أو تجاهل للمطالب الاجتماعية، قد يجعل من هذه التظاهرة وقوداً إضافياً للغضب الشعبي، لا مناسبة للاحتفال.
الحكومة في وضع الانتظار... لكن هل يسمح الزمن السياسي بذلك؟
الواقع أن الحكومة الحالية، وهي تقترب من نهاية ولايتها (الانتخابات مرتقبة في سبتمبر 2026)، تبدو اليوم عاجزة ومشلولة. الخطاب الرسمي يكرر مفردات الإصلاح والانصات، لكن على الأرض:
- لا قرارات جريئة تُتخذ؛
- لا مراجعات مؤسساتية تُعلن؛
- ولا مبادرات سياسية تواكب حجم الأزمة.
والمفارقة أن الانتظار إلى الانتخابات بات ترفاً لا تملكه الحكومة. فالشارع يتحرك، والمطالب تتصاعد، والاحتقان يزداد تعقيداً، والأخطر أن كل يوم تأخير يُخصم من رصيد الدولة وليس فقط من رصيد الحكومة.
المؤسسة الملكية: مرجعية الاستقرار، أي نعم، لكنها ليست بديلاً عن الفعل السياسي
لا شك أن الملكية في المغرب تظل الضامن الأساسي للاستقرار، وقد أطلقت تاريخياً إصلاحات كبرى من أهمها الإصلاحات الاجتماعية. لكن، في ظل الصمت الحكومي والارتباك الحزبي، هناك ميل مقلق لتحميل المؤسسة الملكية وحدها مسؤولية الاستجابة.
وهذا خطر مزدوج:
1- لأنه يُفرغ باقي المؤسسات من مسؤوليتها السياسية والدستورية؛
2- ولأنه يُعرّض المؤسسة الملكية لضغوط اجتماعية متزايدة في كل منعطف.
إن الدستور واضح: الحكومة مسؤولة أمام البرلمان والشعب. والانتظار الدائم لتوجيهات فوقية يُفرغ السياسة من معناها، والمواطنة من جدواها.
من الإنصات إلى الفعل... ومن الإصلاح البطيء إلى التحول العاجل
البلاغ الأخير للأغلبية الحكومية حاول أن يلتقط الإشارات، لكنه بقي في مستوى الخطاب. أما الواقع، فيفرض:
قرارات اجتماعية استعجالية (رفع ميزانيات الصحة والتعليم فوراً)؛
إطلاق حوار وطني حقيقي مع الفئات الشبابية، دون وساطة حزبية مفلسة؛
تسريع وتيرة الإصلاحات المؤسساتية، خصوصاً فيما يتعلق بالعدالة المجالية، والنموذج التنموي؛
وربما، إعادة النظر في موعد الانتخابات أو تشكيل سياسي جديد (هناك محاولة تبدو جادة في هذا الاتجاه)، يواكب حجم المرحلة.
ختاماً: هل يتحول صوت الشارع إلى فرصة جديدة؟
ما يعيشه المغرب اليوم لا هو بأزمة أمنية، ولا هو فقط باحتجاجات موسمية. بل هو علامة على نهاية دورة سياسية كاملة، لم تعد أدواتها صالحة لإدارة مجتمع شاب، متفاعل، رقمي، غاضب، لكنه في العمق متشبث بسلمية التغيير.
هذا الجيل لا يطلب المستحيل، ولا يعارض بناء الملاعب أو تنظيم التظاهرات العالمية.
بل يختصر مطالبه في جملة واحدة: "نريد أن نُعامل كمواطنين فاعلين، لا كأزمة."
ولتحقيق ذلك، لا يكفي الإنصات، بل نحتاج إلى إرادة سياسية شجاعة، تملك الجرأة على قول الحقيقة، والاستعداد للمحاسبة، وتبنّي مشروع وطني جديد، تكون فيه الصحة والتعليم أولى من المدرجات، وكرامة العيش أولى من واجهات المونديال.
لأن المستقبل لا ينتظر... والشباب أيضاً.
اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد.